تاريخ إنشاء هذه النقابات، كهيئات قائمة بذاتها، إلى العشرينيات. ومع أن هذه الحركة الأولى لم تعمر طويلًا، فقد تركت أثرها في كتاب للطاهر الحداد تنعكس فيه الأفكار الاشتراكية الفرنسية (46). ثم بذلت محاولة ثانية كانت أكثر نجاحًا، إذ أسفرت عن إنشاء منظمة قوية هي «الاتحاد العام للعمال التونسيين». وقد لعبت دورًا مرموقًا في النضال في سبيل الاستقلال، لا يضاهيه في ذلك سوى «حزب الدستور الجديد» بخلاياه المنتشرة في جميع أنحاء البلاد والتسلسل الدقيق في أجهزة قيادته ووسائل مواصلاته، والذي يعود الفضل في تأسيسه وتوجيهه إلى الحبيب بورقيبة الذي دلت كتاباته وأفعاله على أنه منظم سياسي ومفكر سياسي من طراز رفيع (47). كانت نقطة الانطلاق في تفكيره أولوية العقل الذي، على حد قوله، «يجب أن يسيطر على كل شيء في هذا العالم ويوجه كل نشاط بشري» (48). وهذا ما قولب خطته السياسية القائلة بأنه لا يجوز لنا الانقياد للعاطفة انقيادًا يؤدي بنا إلى تجاوز الحد، فنطالب بأكثر مما يسع تونس، في ضعفها، أن تأمل في الحصول عليه، أو نرفض. ما يعرض علينا لكونه أقل مما طالبنا به. بل الصواب هو أن نقبل بالعرض الجزئي ونستخدمه كمرتكز ونقطة انطلاق للمطالبة بما هو أكثر منه. لكن هذا يقتضي التمييز الواضح بين ما هو غير جوهري وبين تلك الشؤون الجوهرية التي لا تقبل المساومة. فعندما تقدمت الحكومة الفرنسية في 1951 بمشروع سيادة فرنسية تونسية مشتركة، رفض بورقيبة هذا المشروع في الحال. وحجته في ذلك أن دولة تونسية محدودة السيادة خير من دولة تونسية فرنسية مشتركة ذات سيادة أوسع (49).
وقد تحقق الاستقلال التونسي وفقًا لهذه الخطة. واعتقد بورقيبة أنه يجب تطبيقها أيضًا لبناء مجتمع جديد. وكانت لديه فكرتان عما يجب أن يعمل تحقيقًا لهذه الغاية: فكرة تتعلق بالدولة وفكرة تتعلق بالأمة. فالدولة يجب أن تكون قوية، ومحترمة، وفوق جميع