درسًا، محقًا أو مخطئًا، بأن العرب كانوا أسيادًا من قبل، فباستطاعتهم أن يستعيدوا سيادتهم اليوم، وإن اتخذوا الثقافة الموروثة عن الماضي أساسًا لتضامنهم القومي. لكنهم لم يعودوا يؤمنون، في غالب الأحيان، بأن الماضي قد سلمهم قاعدة للحكمة لا تقبل التغير، أي نظامًا من المبادئ وجه، ويجب أن يوجه دومًا، سير المجتمع ونشاط الدولة، أكانت تلك القاعدة مستمدة من عادات الأجداد أم من الشريعة المقدسة. لقد تخلوا عن الشريعة تخليًا مدهشًا بسرعته وشموله، بحيث قارب هذا التخلي، الذي بدأ في أوائل القرن التاسع عشر بتبني القوانين الحديثة، حد الاكتمال. ففي كل مكان، ما عدا بعض شبه الجزيرة العربية الأشد انعزالًا، حلت القوانين العلمانية محل الشرائع الدينية في كل من حقول التشريع المدني والجزائي والتجاري والدستوري. وقد كان هذا التحول تامًا في بلد كمصر، حيث جرى بصورة غير ملحوظة تقريبًا، كما كان تامًا في تركيا، حيث جاء نتيجة للثورة الكمالية. حتى أن هجومًا قد شن في تركيا وتونس على آخر معقل من معاقل الشريعة، أي القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية. فألغى فيهما نظام تعدد الزوجات وسمح بالزواج المدني، دون أن يثير ذلك ضجة كبيرة على ما يظهر. ولا عبرة في عاصفة الاستياء التي أثارها في تونس انتقاد الرئيس بورقيبة فريضة الصوم في رمضان. ذلك لأن رمضان قد أصبح في العصر الحديث مظهرًا كبيرًا لوحدة الإسلام. وهو الشهر الذي يستيقظ فيه وعي المسلمين، مؤمنين أو غير مؤمنين، لماضيهم ولصلتهم بالأجداد. لذلك قد تكون عاصفة الاستياء تلك عائدة لا إلى ما يخالف الشريعة في انتقاد الرئيس بورقيبة، بل بالأحرى إلى ما قد يهدد تضامن الأمة الإسلامية في هذا الانتقاد.

لم تكن إذن القاعدة التي اتخذها المفكرون ورجال السياسة مقياسًا لأعمالهم مستمدة من الماضي، بقدر ما كانت مستلهمة من المستقبل. فقد وضعوا أمام أعينهم صورة للمستقبل، رمز إليها، مثلًا،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015