الحوار السياسي الحديث، أن يعترفوا للغرب بأي مركز ممتاز، وأن يهتموا بالثقافة الغربية إلا قليلًا. وهكذا تسنى لمصر، للمرة الأولى في غضون ما ينيف عن القرن، أن يحكمها من لم يردد صدى كلمات الخديوي إسماعيل: «لم تعد مصر جزءًا من أفريقيا»، ومن لم ينظر إلى باريس كعاصمة العالم الروحية.
لكن هذا لا يعني أن حكام مصر الجدد أشاحوا بوجوههم عن باريس وأداروها نحو مكة. فالشيء الجديد الأهم بين جميع التغيرات التي طرأت خلال العشرين سنة هذه، هو أن التاريخ قد ألغي، سواء تاريخ «تقليد الغرب»، أو تاريخ المجتمع التقليدي السابق، في سبيل مجتمع جديد لاحت تباشيره في جميع بلدان العالم العربي. كان من ميزات هذا المجتمع، من الناحية الاقتصادية، نمو الصناعة على نطاق واسع، والتنظيم العلمي للزراعة، وتدخل الحكومة الإيجابي في كل منهما. وقد ظهرت للوجود، كنتيجة لهذه التطورات، ثلاث طبقات اجتماعية جديدة: طبقة وسطى من المقاولين ومديري الأعمال والتجار من أهالي البلاد؛ وطبقة النخبة الفكرية من التقنيين والموظفين والضباط والأخصائيين من رجال ونساء؛ وطبقة عمال المدن التي عززها تفاقم نزوح سكان الريف.
وفيما كانت هذه الطبقات آخذة في النمو، دخلت طبقتان أخريان قديمتان في طور التقهقر، هما طبقة البورجوازية الأوروبية والمشرقية التجارية في المدن، وطبقة كبار ملاكي الأراضي في الريف. وما ذلك إلا لأن الحياة العامة في المجتمع لم تعد وقفًا على فريق صغير من المحظوظين. وقد عاد الفضل إلى تحرر المرأة، وازدهار وسائل المواصلات الجديدة، كالصحافة والسينما والراديو والتلفزيون، ونشوء أدب جديد منسجم معها. وكانت القضايا التي أثارها ظهور هذا المجتمع الجديد على درجة من الجدة والتعقد والغرابة، بحيث عجز التاريخ حيالها أن يقدم أية عظة أو عبرة. نعم، كان لا يزال في وسع الناس أن يلتفتوا بعقولهم ومخيلاتهم إلى الماضي لاستلهامه، وأن يستمدوا منه