الجديد في المنطقة. وهكذا، ما أن جاء عام 1962 حتى كانت المنطقة بكاملها مستقلة عمليًا، وأصبح هدف القوميين الأول، لا الحصول على الاستقلال، بل المحافظة عليه. من هنا كانت أهمية الكتلة الأسيوية الأفريقية في الأمم المتحدة، التي نفحت الدول الجديدة الضعيفة بقوة جماعية كانت سريعة العطب، لكنها لم تكن وهمية. ومن هنا أيضًا كانت أهمية فكرة الحياد، وهي الأساس النظري الذي قامت عليه هذه الكتلة. لم يكن هذا الحياد يمثل الرغبة في تجنب الانخراط في خصومات الدول الكبرى فحسب، بل كان يمثل أيضًا الشكل الجديد للرغبة في الاستقلال. فقد كان الحياد، بحد ذاته، يتوخى استخدام خصومات الدول الكبرى لإنشاء دائرة لا تستطيع أي منها أن تفرض إرادتها فيها. وهكذا عم، كموقف سياسي، جميع بلدان المنطقة تقريبًا، مع أنه اتخذ أشكالًا مختلفة في ظروف مختلفة: فتركيا وإيران اللتان مالتا نحو المعسكر الغربي تجنبًا لضغط المعسكر الثاني عليهما قد تعودان إلى موقف أسلم في الوسط فيما لو خف هذا الضغط.
ولعل ما لم يظهر بمثل هذا الوضوح قيام نوع آخر من الاستقلال. فالتمييز بين الشرق والغرب، المسيطر على تفكير الحقبة التي عالجها هذا الكتاب، كان قد اضمحل. لقد كان من الطبيعي، لأبناء جيل محمد عبده ورشيد رضا، بل حتى لخلفائهم في السنوات الواقعة بين الحربين، أن ينظروا إلى الغرب كمستودع للمدنية الحديثة وكمعلم في أساليب التفكير والتقنية التي كانت تلك المدنية متوقفة عليها. أما الآن، فقد أكمل الغرب رسالته التاريخية بخلق عالم جديد موحد. لقد أصبح العالم واحدًا: واحدًا، أولا، على صعيد التقنية المادية. فبالرغم من أن المراكز الكبرى للعلوم الخلاقة لا تزال حيث كانت قبل جيل، أي في أوروبا الغربية وروسيا الأوروبية وأميركا، فقد ظهرت المهارة التقنية بتزايد في كل مكان، ورافقها اقتناع عام بوجود طريقة صالحة واحدة لصنع الطيارات ومكافحة الأمراض