آسيا والشرق الأوسط. بل كان الأمر على خلاف ذلك. فإتقان الأسلحة الحديثة قد أدى إلى رجحان ميزان القوة العسكرية لصالح البلدان المتقدمة صناعيًا. أما التغير الذي نعنيه، فقد حدث على صعيد آخر. لقد انتاب أوروبا ما سمي أحيانًا، وربما بغير إنصاف، بـ «ارتخاء الأعصاب». وهو الإحجام المتزايد مع الزمن عن استعمال القوة لقمع المقاومة كما كان يجرى في الماضي. وقد كان هذا التغير أسرع في إنكلترا منه في فرنسا، حيث جعلت الصعقة من الاحتلال الألماني وضعف الجهاز السياسي من الصعب على فرنسا التنازل برضى عما تبقى لها من مركزها الاستعماري. وفضلًا عن ذلك، فقد تغيرت علاقات الدول الغربية بعضها ببعض. فإنكلترا لم تعد الدولة الأقوى في العالم أو في الشرق الأوسط، مع أن تضافر الظروف مكنها من التصرف في هذه المنطقة من العالم كما لو كانت لا تزال الدولة الأقوى. وقد تمت خسارتها لمركزها المتفوق هذا في السنوات الواقعة ما بين 1945 و 1954، إذ تنازلت أولًا للولايات المتحدة عن مسؤوليتها في اليونان وتركيا وإيران؛ ثم عانت اندحارًا كبيرًا في أحد مراكز قوتها الرئيسية، فلسطين؛ وتراجعت أخيرًا بملء إرادتها عن مركزها في مصر والعراق. غير أن هذه الخسارة لم تبرز على أتمها حتى 1956، إذ حاولت للمرة الأخيرة أن تتصرف تصرف الدولة الأقوى، فلم تجن من ذلك سوى غضب الذين كانوا أقوى منها. بيد أن السيطرة التي فقدتها لم تنتقل إلى دولة أخرى بمفردها. بل الذي حدث هو أن سيطرة الدولة الواحدة حل محله توازن ضعيف بين دول عدة كانت كل منها قادرة على الإصرار على ضرورة أخذ مصالحها بعين الاعتبار، دون أن تكون قادرة على فرض سيطرتها بلا منازع.
كانت إحدى نتائج هذا الوضع الجديد أن أصبح بإمكان دول الشرق الأوسط، للمرة الأولى، أن تستقل استقلالًا حقيقيًا، بفضل ضعف الخصم، أو تغير المناخ السياسي، أو توازن القوى