تستحوذ على عقول المحكومين ومخيلتهم، كما كتب «طوينبي» عن قوة الاستهواء التي بها تستطيع الأقلية أن تجر الأكثرية وراءها. لقد كان عدم إمكان التخلص من قبضة السلطة الأوروبية، الممقوتة والمقبولة في آن واحد، من أهم الأسباب التي جعلت قومية ذلك الجيل تتخذ موقفًا ازدواجيًا من أوروبا. فبالرغم من الرغبة في التخلص من سيطرة إنكلترا أو فرنسا، أو على الأقل من حكمهما المباشر، كانت هذه القومية تناشد الوجدان الليبرالي لدى البريطانيين والفرنسيين أنفسهم لمساعدتها في تحقيق تلك الرغبة. ولم يكن هدفها الصريح من السعي وراء الاستقلال تحرير نفسها تمامًا من أوروبا بقدر ما كان إقامة علاقة جديدة معها: علاقة متساوية ملؤها الثقة، قائمة على قبول عفوي وتام لقيم المدنية الحديثة التي خلقتها أوروبا. فها طه حسين يقول: «علينا أن نقتفي آثار الأوروبيين كي نصبح مساوين لهم وشركاؤهم في المدنية». وهو يرى، كما رأى بطرس البستاني لجيلين مضيًا، أن العصر إنما هو عصر أوروبا، وأنه من الضروري، كي نكون عصريين، أن نوطد الصلة بها.
لم يمض طويلًا على كلمات طه حسين هذه حتى اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية، وحدثت، خلال العشرين سنة اللاحقة، تغييرات كبيرة، تجلى بعضها بصورة أوضح من بعضها الآخر. وكان أبرز التغييرات الناجمة عن الحرب، التبدل في موقف الدول الأوروبية بعضها من بعض ومن بقية العالم. لقد فقدت الدول الأوروبية سيطرتها المعنوية، ومعها تلك القوة الاستهوائية التي كانت تتمتع بها منذ زمن طويل بفضل قوتها وفضائلها السامية الكامنة، أو المعتقد أنها كامنة وراء تلك القوة. فمنظر أوروبا تتمزق، وفرنسا تنهار فجأة، قد آثار الشكوك حول تلك القوة وتلك الفضائل: فمن يدري، قد تكون أوروبا لا تملك بالحقيقة «سر» السعادة الدائمة. وبالواقع، كانت تلك الشكوك في محلها إلى حد ما. فوضع أوروبا قد تغير بالفعل. غير أن هذا لا يعني أن قوتها قد ضعفت بالنسبة إلى بلدان