للمبادئ الموجهة للفكر الأوروبي في ذلك الحين. «عمران» ابن خلدون تحول تدريجًا إلى «تمدن» غيزو، و «مصلحة» الفقهاء المالكيين وابن تيمية إلى «منفعة» جون ستوارت مل، و «إجماع» الفقه الإسلامي إلى «الرأي العام» في النظرية الديمقراطية، و «أهل الحل والربط» إلى أعضاء المجالس البرلمانية. وكانت نتيجة ذلك، لدي ما سميناه بالجناح العلماني لمدرسة محمد عبده، الفصل الواقعي الحاسم بين دائرة الحياة المدنية ودائرة الدين، ثم فتح باب جديد أمام القومية العلمانية. لكن التمييز، حتى في الجناح الآخر، جناح رشيد رضا والوهابيين المتجددين، بين العقيدة والعبادة القائمتين على الوحي الذي لا يتغير وبين قواعد الخلقية الاجتماعية التي يجب سنها على ضوء المصلحة قد أدى إلى الاتجاه ذاته، وإن كانوا قد استمروا على الاعتقاد، أو بالأقل على التأكيد، بأن هذه القواعد يجب أن تستمد من المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية.
في هذا النظام من الأفكار، سواء كانت مستمدة مباشرة من الفكر الليبرالي الأوروبي أو مداورة عن طريق حركة التجدد الإسلامية، كان الإلحاح على الاستقلال القومي أو الحرية الفردية أشد منه على العدالة الاجتماعية. لقد كان من السهل علينا أن نلاحظ، مما ورد في هذا الكتاب، ومن إشارتنا بصراحة إلى ذلك في حينه مرارًا، أن مضمون القومية لم يشتمل، في تلك الحقبة، إلا على القليل من الأفكار الدقيقة حول الإصلاح الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، مما يمكن تفسيره إما باللامبالاة، أو بأن معظم زعماء الحركة القومية والناطقين باسمها كانوا ينتمون إلى عائلات ذات مكانة وثروة أو ارتفعوا إلى هذه الطبقة بمجهودهم الشخصي. لكن يمكن تفسيره أيضًا بمناخ الزمن الليبرالي. نعم، لقد كان هدف القومية تفجير الطاقة الوطنية في الحقل الاقتصادي كغيره من حقول الحياة الأخرى. إلا أنها كانت تنظر إلى الاستقلال، من ناحيته الاقتصادية، كعملية لتحرير حياة الأمة الاقتصادية من التحكم الأجنبي وتفجير