بهذا المعنى كانت تمثل أوروبا العالم الحديث. وكان طه حسين يعتقد أن مصر المستقلة يجب أن تصبح جزءًا من أوروبا، إذ بذلك فقط تصبح جزءًا من العالم الحديث. وهذا هو، في نظره، المعنى الحقيقي للمعاهدة الإنكليزية المصرية ولاتفاقية مونترو. فهاتان الوثيقتان هما بمثابة اتفاقية بين مصر وأوروبا، بها تؤكد أوروبا إيمانها بالمدنية المصرية، وبها تلتزم مصر التزامًا صحيحًا وقاطعًا، أمام العالم المتحضر، «بأننا سنسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع» (4).
لذلك أصبح على عاتق مصر أيضًا أن تثبت أنها أهل لهذه الثقة، وأن بإمكانها تنفيذ هذا الالتزام. ويخاطب طه حسين مواطنيه قائلًا إن على المصريين أن يرفعوا من شأن مصر بحيث يكف الأوروبيون عن اعتبارهم أدنى منهم شأنًا ويكف المصريون عن اعتبار أنفسهم أدنى منهم قدرًا. ومن ميزات الزمن الذي ألف فيه كتابه أن الطريقة عنده لبلوغ ذلك لم تكن بإنشاء مدنية مصرية تضاهي مدنية أوروبا، بل باستيعاب مدنية أوروبا ذاتها، وباقتناع المصريين بأن لا فرق بينهم وبين الأوروبيين. وفي ذلك يقول:
«صدقي يا سيدي القارئ أن الواجب الوطني الصحيح، بعد أن حققنا الاستقلال وأقررنا الديمقراطية في مصر، إنما هو أن نبذل ما نملك وما لا نملك من القوة والجهد ومن الوقت والمال لنشعر المصريين، أفرادًا وجماعات، أن الله قد خلقهم للعزة لا للذلة، وللقوة لا للضعف، وللسيادة لا للاستكانة، وللنباهة لا للخمول، وأن نمحو من قلوب المصريين، أفرادًا وجماعات، هذا الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوروبي وفطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوروبية ومنحوا عقولًا غير العقول الأوروبية ... علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات .... علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم