بصره، وإن كان قد حده منه. فهو لم ينظر إلى أوروبا نظرته إلى مستودع للأفكار الصحيحة فحسب، بل رأى فيها خالقة الصور الجميلة، وعلى الأخص، الصور الشعرية. فهو عندما يكتب عن الشعر الإغريقي أو الدراما الإغريقية، لا يترك لنا مجالًا للشك في إخلاص إحساسه الشخصي بالعالم الكلاسيكي، حتى لو كان يراه بعيون عابدي الجمال من الفرنسيين العلمانيين المتلهفين إلى استخراج دروس لا مسيحية منه، كأناتول فرانس، مثاله الأعلى، أو أندره جيد الذي تعرف إليه شخصيًا وترجم إلى العربية كتابية «تيزة» و «أوديب». وهو لا يقل إخلاصًا في تمجيد فضائل المدنية الأوروبية التي هي أساس المجتمع الخلقي. فالأوروبيون، عنده، يضحون بكل شيء في سبيل معتقداتهم. وليس صحيحًا أن الغرب مادي، كما يظن الشرقيون. فانتصارات الغرب المادية إنما هي نتاج عقله وروحه. والملحدون أنفسهم يموتون في سبيل معتقداتهم (3). والأوروبي يعتبر الأمة القطب السياسي الأول لولائه ولتضحيته، لذلك يرى طه حسين أن الإنسان لا يكون عصريًا ومتمدنًا كاملًا ما لم ينتم إلى أمة مستقلة (إذا بدا هذا القول اليوم بديهيًا بمعنى ما، وخاطئًا بمعنى آخر، فلا ننس كم كان قليلًا عدد الدول المستقلة في آسيا وأفريقيا في زمن الإمبراطوريات العظمى ذاك). لكنه كي يكون أوروبيا، يجب أن ينتمي إلى أمة ديمقراطية. ولا تكون الأمة ديمقراطية إلا إذا كان لها حكومةً مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب انتخابًا عامًا.
قلنا إن الكتاب صدر في 1938. لكنه لا يحتوي إطلاقًا أي إشارة إلى الأفكار السياسية المخالفة التي كانت ألمانيا وإيطاليا تبشران بها في ذلك الحين. وهذا لا يميز تفكير طه حسين وحده، بل يميز أيضًا عقيدة الوفد القومية. فقد كان الوفد مرتبطًا، من الناحية الثقافية، ارتباطًا عميقًا بفرنسا. كما أن النشوة التي أحدثتها معاهدة 1936 لم يتخللها أي شعور معاد لإنكلترا. إنما كان هناك خوف من مطامع إيطاليا في غربي مصر وجنوبها.