أن تنهض فيه بواجبات خطيرة وتبعات ثقال ... فنحن نعيش في عصر من أخص ما يوصف به أن الحرية والاستقلال فيه ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى وأشمل فائدة وأعم نفعًا» (1).
على مصر، إذن، من الآن فصاعدًا، أن تهتم بنوعية حياتها الوطنية. ويقوم طه حسين هذه النوعية على ضوء مبادئ يمكن دعوتها «فلسفة المجتمع والتاريخ»، استمدها، إلى حد ما، من ابن خلدون. إلا أنه استمد أسسها من مفكرين فرنسيين، أخصهم كونت، ورينان، ودوركهايم، وأناتول فرانس. وهي أن الحضارة هي غاية الحياة البشرية، وأنها تعني سيطرة العقل على الطبيعة والحياة؛ وأنها تتحقق بتطور تدريجي على مراحل عدة. ففي البدء يسيطر الدين والإيمان الأعمى على حياة الإنسان برمتها؛ ثم يستقل العقل عن الدين، وينشأ صراع بينهما لردح من الزمن؛ وأخيرًا، يقوم التوازن بينهما، فيحكم كل منهما في نطاق دائرته حكم السيد المطاع. فمهمة العقل توجيه أفعال الإنسان؛ ومهمة الدين إملاء فراغ قلبه، وإرضاء عواطفه، وإلهامه إلى الأعمال النبيلة، وتعزيته في مصائبه (2).
ويرى طه حسين فحوى أوروبا الحديثة في أنها سجلت لنفسها أعلى مرحلة بلغها هذا التطور، مرحلة تحقيق التوازن المثالي، الذي يترك للعقل حريته في حكم العالم الاجتماعي، وإخضاع الطبيعة بتطبيق العلم، وسن الشرائع التي تستهدف السعادة البشرية، وإقامة حكومات تحترم القانون وتوفق بين المصالح. لقد طغت على خياله، طيلة سنواته الخلاقة، صورة أوروبا التي استشفها للمرة الأولى من خلال ما كتبه عنها الصحفيون اللبنانيون، وما خبره هو بنفسه مدة أربع سنوات من حياته. وقد عنت أوروبا له ثلاثة أشياء: الحضارة الإنسانية، والفضائل المدنية، والديمقراطية. كان طه حسين أديبًا أكثر منه مفكرًا، يتحسس الجمال تحسسًا شحذه كفاف