فينيقيين أكثر مما هم مصريون أو إيجيون أو أشوريون أو ماديون أو يونانيون أو رومانيون أو بيزنطيون أو عرب ربطت بينهم روابط القربى العرقية أم لم تربط، أو أوروبيون بالتزاوج، أو أتراك مثلًا» (128).
إن هذه الأمة، التي وجدت على مر العصور، كان لها، منذ أقدم الأزمان، «أشكال وراثية من الإحساس القومي خاصة بها (129). وقد أنشأت لها مجتمعًا ومدنية من نوع خاص، كانا صغيرين حقًا، إلا أنهما ليسا بدون أهمية بالنسبة إلى بقية العالم. فادعى أحد شعراء هذا الفريق، بحماس مألوف في الحركات القومية، لكنه حماس جردته من الخطر براءته، أن لبنان قد لعب دورًا فريدًا في إنشاء الحضارة العالمية: ففكرة النشاط الاقتصادي، والتفكير المجرد، والمحبة المسيحية، وتجسد الحقيقة في الكنيسة، وفن السياسة الذي بلغ كماله على يد الأمويين، كل ذلك قد وهبته للعالم مدن لبنان: صيدا والقدس وأنطاكية ودمشق، فانتقل منها إلى مصر واليونان وروما وأوروبا الحديثة، ثم عاد من أوروبا إلى لبنان عن طريق باريس، «عاصمة العالم الروحية ومستودع تراثه الفكري» (130). ليس لهذه اللغة الشعرية سوى علاقة غير مباشرة بالحقيقة. ولو تصدى لهذا الموضوع كتاب النثر لما صدر عن معظمهم مثل هذه الادعاءات الجارفة، بل لاكتفوا بالقول أن لبنان جزءًا لا يتجزأ من العالم المحيط بالبحر المتوسط، ذلك البحر المختار الذي جعلته العناية الإلهية ضروريًا لتقدم الخليقة، وإن سكان شواطئه يشعرون بأواصر القربي حيثما التقوا (131)، وإن لبنان، حتى ضمن هذا العالم، فريد من نوعه: فهو يتاخم عالمًا آخر، عالم الصحراء العربية، هذا البحر الداخلي الذي يطبع بطابعه أيضًا الذين يعيشون حوله.
وهكذا لم تكن مدنية لبنان، في نظر هؤلاء المفكرين، مدنية البلدان المحيطة به، متوسطية كانت أم عربية، بل مدنية خاصة