تحمل طابع المدنيتين معًا. فالقرون الثلاثة عشر الأخيرة يجب أن لا تنسينا القرون الأربعين التي سبقتها، لذلك يجب أن يكون للبنان لغتان على الأقل، وبالتالي ثقافتان، كما يجب، عن ضرورة أو عن مصلحة، أن يكون منفتحًا على الأفكار والبضائع الخارجية، وأن تكون التجارة الحرة والتنقل الحر أساسًا لحياته الاقتصادية ولأمنه السياسي أيضًا، على أن لا يفقده ذلك شخصيته وطبيعته. إن وحدته لعميقة، لكن في أساس هذه الوحدة تنوعًا لا يقل عمقًا. فهو، منذ الفتح الإسلامي، قد تجزأ إلى طوائف دينية، يشكل كل منها مجتمعًا مغلقًا يفرض على أبنائه واجب الولاء الأول له. وهكذا يمتد التنوع فيه، لا إلى الحقل الديني فحسب، بل إلى الحقلين الاجتماعي والفكري (132).
من هذه الوقائع نشأت قضية لبنان الأساسية. فعليه، لكونه متناقضًا في ذاته ومزيجًا من عالمين، أن يحاول أن لا يتنكر لأي من جانبي طبيعته أو لأي من مصلحتيه، أي أن يكون هو ذاته، وأن يكون، بالوقت نفسه، جزءًا من شيء أوسع منه. وهذا يعني، على صعيد السياسة الداخلية، أن على الطوائف الدينية فيه أن تتعلم كيف تعيش معًا. ولهذا يجب أن لا تقوم فيه ثورات أو انتفاضات من شأنها أن توقظ الولاءات الطائفية وبالتالي الانقسامات الطائفية، وأن لا تسيطر فيه طائفة على أخرى. ويجب أن لا يصدر من القوانين في البلاد إلا ما يمكن تطبيقه على جميع أجزاء الأمة بالتساوي. ويجب، قبل كل شيء، أن يكون هناك مجلس نواب حر وسيد، تلتقي فيه الطوائف الدينية وتتحد، كي تفرض رقابة مشتركة على الحياة السياسية. ومن شأن هذا المجلس، كما قال ميشال شيحا، أن «يدعم» الرغبة في العيش المشترك لدى اللبنانيين، ويفسح المجال أمام الماروني والسني، والشيعي والدرزي، والأرثوذكسي والكاثوليكي، وغير هم كي يتناقشوا معًا في جو المصلحة العامة، وبعيدًا، لفترة، عن المصلحة الطائفية (133). إن الحرية السياسية،