الوجهة الدينية، على الرغم من أنها كانت هي بدورها تحت سيطرة الدولة العثمانية من الوجهة السياسية ... ولهذا السبب بدأت النهضة القومية البلغارية أولًا بالقيام ضد الكنيسة اليونانية، وضد رجالها اليونانيين ... وأوجدوا كنيسة قومية قائمة بنفسها ... إن البلغار وضعوا بذلك حدًا للخلافات التي كانت تظهر في بلادهم بين السياسة القومية وبين السياسة الدينية، وضمنوا استقلالهم القومي عن الكنيسة اليونانية، قبل أن يتموا استقلالهم السياسي عن الدولة العثمانية. إني أعتقد أن هذه الأمثلة كافية لإظهار قوة النزعات القومية تجاه الروابط الدينية وللبرهنة على أن الأديان العالمية نفسها لا تستطيع أن تقضي على النزعات القومية» (118).

تنعكس في هذا القول بشكل جلي نظرية ابن خلدون في العلاقة بين الدين والعصبية. فالدين لا يمكنه بحد ذاته أن ينشئ جماعة سياسية، بل بوسعه فقط أن يقوي الجماعة التي تكون قد نشأت عن تضامن طبيعي ناجم عن صلات طبيعية. ويستخرج الحصري، بشكل أوضح ومنطق أقوى مما فعله غيره من المفكرين، ما تنطوي عليه ضمنًا هذه النظرة. وهو أنه لما كان وجود الأمة يسبق منطقيًا وجود الجماعة الدينية، فليس من علاقة جوهرية بين الأمة وبين دين معين من الأديان. نعم، كان نشوء الأمة العربية، من الوجهة التاريخية، متصلًا اتصالًا وثيقًا بالإسلام؛ إلا أن العرب لا يشكلون جوهريًا أمة إسلامية. فهم يبقون عربًا حتى لو لم يبقوا مسلمين. وعلى هذا، فالمسيحيون الناطقون بالضاد عرب كالمسلمين وبالمعنى ذاته بالضبط، ويمكنهم أن يكونوا عربًا بدون أن يتخلوا عن أي شيء من تراثهم الديني أو أن يقتبسوا تراث الإسلام. والواقع أنهم لم يستيقظوا على قوميتهم العربية إلا عن طريق تراثهم الديني، إذ أن قوميتهم بدأت بنضال العرب الأرثوذكس للتخلص من السيطرة اليونانية في بطريركية أنطاكية، ونضال الكنائس الشرقية المتحدة مع روما لمقاومة اجتياح العادات والطقوس وأساليب التفكير

طور بواسطة نورين ميديا © 2015