وكان بطريركا القدس والإسكندرية من اليونان أيضًا. وإذ كانا يقيمان عادة في القسطنطينية، فقد كانت إدارة شؤون الكنيسة في الأراضي المقدسة ومداخيلها في يد رهبنة قوية متراصة، هي رهبنة القبر المقدس، التي كان جميع أعضائها تقريبًا يونانيين. وكانت الحالة مستقرة نسبيًا في بطريركية الإسكندرية، إذ كان معظم الأرثوذكسيين فيها يونانيين. أما في سوريا، حيث كان معظم الشعب والكهنة من الناطقين بالضاد، فقد ظهرت، حتى ابتداءً من القرن الثامن عشر، علامات الاستياء في صفوفهم، وراحت تتزايد في القرن التاسع عشر. وما ذلك إلا لبروز الشعور بالفوارق الجنسية واللغوية في وعي الشرقيين على العموم، ولاتصال روسيا الوثيق بالأرثوذكسيين داخل الإمبراطورية، وعدم قبولها بالسلطة اليونانية على الكنيسة. وقد تأزمت الحال في أواخر القرن التاسع عشر، إذ حدث تنافس على الكرسي البطريركي في أنطاكية، فأيدت روسيا المرشح العربي ضد المرشح اليوناني، مما حمل الحكومة العثمانية، بضغط من روسيا، على ضمان نجاح المرشح العربي.
وقد اتسم هذا الشعور «القومي»، في أواخر القرن التاسع عشر، بطابع علماني أيضًا. فدعوة جريدة بطرس البستاني، «الجنان»، إلى وحدة الوطن العثماني انطوت أيضًا على دعوة خاصة إلى إحياء شعور إقليمي معين. فقد كان البستاني يقول أن الإمبراطورية هي وطننا، لكن بلادنا هي سوريا (29). وإذا كان في هذه العبارة انحراف عن العبارات الواردة في «نفير سوريا»، فلا يعني ذلك تعديلًا في موقف البستاني الأساسي. لقد كانت الآمال كبيرة، في جو السبعينيات، في الوحدة العثمانية. لكن حرارة شعور البستاني كانت، بالرغم من ذلك، منصبة على وحدة جغرافية أصغر. فهو يمتدح الحكومة العثمانية لإسنادها الوظائف المحلية للوطنيين، كما في بيروت مثلًا، إذ أسندت معظم المناصب في 1870 إلى العرب من أبناء البلاد (30).