الستينيات، بعض الاتصالات بين صحفيي بيروت ورجال الدولة المصلحين في إسطنبول، قد يكون ساعد على قيامها وجود أحمد فارس الشدياق في العاصمة، أو إقامة فؤاد باشا في سوريا، حين جاءها كمفوض عثماني خاص للتحقيق في حوادث 1860. وكانت حرية التعبير عن الرأي في الستينيات والسبعينيات واسعة نسبيًا، فكانت الصحف العربية في بيروت تعبر عن آراء شبيهة بآراء حزب «تركيا الفتاة» ومدحت باشا، مع الفارق أنها كانت تتسم بطابع العلمانية الذي اتصف به الكتاب المسيحيون. من أمثال تلك المنشورات مجلة «الجنان» التي أسسها بطرس البستاني في 1860 وأدار شؤونها هو وعائلته مدة ست عشرة سنة. ففيها نقرأ أن الشرق كان مزدهرًا ومتمدنًا في الماضي، ثم فقد ما كان عليه بسبب الحكم الفاسد، وأنه ليس من علاج لذلك إلا الحكم الصالح الذي لا يمكن أن يقوم إلا بفضل اشتراك الجميع فيه، وفصل الدين عن السياسة، وفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وفرض ضرائب نظامية، وإجراء أشغال عامة مفيدة، وجعل التعليم إجباريًا، وقبل كل شيء، إقامة العدل والاتحاد بين أبناء الأديان المختلفة، وتقوية الشعور الوطني الموحد بين جميع المواطنين العثمانيين (4).
عندما انعقد أول برلمان عثماني في 1877، نقلت «الجنان» مناقشاته الأولى ونشرت خبرًا عن جريدة التايمس ينبئ عن ظهور حزب معارض (5). لكن لم يمض زمن طويل حتى اختفت الأخبار عن صفحات المجلة. ولم يكن ذلك عرضًا، بل كان دلالة باكرة على أن السلطان قد استعاد القبض على زمام الحكم وقمع نشاط المعارضة، مما أنهى حياة المجلة نفسها في 1866، ونقل مركز الصحافة اللبنانية من بيروت إلى القاهرة. لكن أفكار السبعينيات لم تندرس. فمدحت باشا، وقد قضى عدة أشهر حاكمًا لدمشق في 1879، أي بعد إخفاق حركة الدستوريين وقبل أن يسجنه عبد الحميد وينفيه ثم يهلكه، أنشأ بينه وبين صحفيي بيروت