رأسه من قبل جميع الفرقاء» (14)، أما بلنط فرسم لنا عنه صورة أخرى، إذ قال عنه: «إنه متحمس وبليغ وذو موهبة فائقة في الخطابة ... وأفكار واضحة كل الوضوح ... ومعرفة بالناس وبالأشياء عجيبة ... وإني أعتبره أيضًا مخلصًا في وطنيته، ولم أتمكن أن أكتشف لديه طيلة حديثه اليوم أية نغمة زائفة. وهو فضلًا عن ذلك شجاع مقدام وذو رأي ثاقب ثابت» (15).
ومهما يكن من أمر خصاله الحميدة ونقائصه الشخصية، فالأكيد أنه كان في نظر الكثيرين من المصريين رمزًا ضخمًا لآمالهم. وكان مأتمه أول وأكبر تظاهرة شعبية للروح الوطنية الجديدة. فقد قال قاسم أمين إنه لم يشعر بقلب مصر يدق إلا مرتين: في دنشاواي، وعندما دفن مصطفى كامل.
لم ليس محتوى تعاليمه هو ما استهوى مواطنيه، على ما في خطبه وكتاباته من أفكار في كيفية تنظيم المجتمع. فقد استشهد مرة بعبارة الخديوي إسماعيل الشهيرة، وهي أن مصر جزء من أوروبا (16). ليدلل على ضرورة تبني ما كان ذا قيمة في المدنية الغربية. فما من أمة يمكنها أن تعيش عيشة كريمة ما لم تسر على هذا الدرب (17). غير أن هذا لا يعني أن على مصر تقليد أوروبا تقليدًا أعمى، إذ يجب أن تبقى وفية لمبادئ الإسلام المفسرة تفسيرًا صحيحًا. فالإسلام الحقيقي هو الوطنية والعدل، النشاط والاتحاد، المساواة والتساهل (18)، وبإمكانه أن يكون أساسًا لحياة إسلامية جديدة تستمد قوتها من العلم ومن الفكر الواسع والرفيع (19). وكان مصطفى كامل يردد كلمتي «الحرية والتقدم» الرنانة، ويشدد على أهمية الثقافة العالمية، ويشير، وإن عرضًا، إلى الصناعة الوطنية (20). لكن كل هذا وأمثاله من الآراء كان مألوفًا لدى الفكر التقدمي المصري منذ أيام الأفغاني. غير أن ما يستحق الذكر هو أن اتصاله الشخصي بأفكار الأفغاني قد تم على يد عبد الله النديم الذي تعرف إليه في 1892 (21)، فكان أقرب روحيًا إلى خطيب الحركة العرابية