يعودون منها، أكثر الأحيان، غرباء عن أمتهم (8). وهاجم أيضًا المرسلين الأجانب بحجة أن التربية التي يقدمونها تشكل خطرًا لا على لغة التلاميذ وثقافتهم فحسب، بل على معتقداتهم الدينية الموروثة أيضًا. وقد تخللت كتاباته نزعة إلى «كره الأجنبي» كثيرًا ما ترافق المشاعر القومية الحادة، وبعض التزمت الذي غالبًا ما يقترن بها أيضًا. ففي مقال كتبه في نقد الخديوي إسماعيل، نراه يلومه على إدخاله أوروبيين إلى مصر يفتحون قاعات للتمثيل ونواد للرقص وأماكن أخرى للفساد (9). وهكذا يمكن اعتبار عبد الله النديم أول الوطنيين المصريين الشعبيين. غير أنه لم يكن يعتقد، بالرغم من قوة شعور الإباء وسوء الظن لديه، أن الأمة المصرية مكتفية بذاتها وتستطيع بعث نهضتها بالاقتصار على مواردها الخاصة. نعم، كانت أوروبا في نظره العدو السياسي، لكنها كانت، مع ذلك، المعلم أيضًا. وقد عنون إحدى مقالاته الطويلة بهذا العنوان: «لماذا يتقدمون ونحن على تأخر؟ ». وهو يدحض تفسيرين خاطئين لهذا الواقع، فيقول إن مصر ليست متأخرة بسبب المناخ أو الدين، بل لأنها لا تملك مصادر القوة الأوروبية بعد، مع أن باستطاعتها امتلاكها جميعًا، وهي اللغة والدين، والوقوف في وجه العالم الخارجي، والنشاط الاقتصادي، ونظام التعليم الشامل، والحكم الدستوري، وحرية التعبير.
كان عبد الله النديم خطيبًا وكاتبًا يبشر بفجر سرابي. وما كانت السنوات التسع من الانفراد والصمت التي عاشها إلا رمزًا لما جرى للوعي الوطني في مصر بعد الاحتلال البريطاني. فطيلة ثلاث وعشرين سنة (1884 - 1907) كان حاكم مصر الفعلي قنصل بريطانيا العام السير أفلين بارينغ، الذي سمي فيما بعد بالورد كرومر. نعم، لقد حقق كرومر الاستقرار المالي لمصر، وزودها بجهاز للأقنية أفضل وأوسع، وبقضاء أكمل، لكنه أخضع البلاد مجددًا لسلطة الخديوي التي لم يكن ليحد منها سوى الرقابة البريطانية،