يسوق الغني إلى أن يبذل آلافًا من الجنيهات لجمعية من الجمعيات الخيرية أو لعمل يعود نفعه على أمته أو على الإنسانية» (23).
إن أساس كل هذا إنما هو العلم. نعم، إن الأخلاق الصالحة ممكنة بدون المعرفة، لكنها لا تكون ثابتة بدونها. فحرية المرأة في أوروبا مثلًا ليست قائمة على العادة والشعور بل على مبادئ عقلية وعلمية. ومن العبث تبني علوم أوروبا بدون الاقتراب من منهل مبادئها الخلقية. فالاثنان متصلان اتصالًا لا ينفصم. ولذلك علينا أن نعد أنفسنا للتغير في كل ناحية من نواحي حياتنا (24).
وهكذا نرى أن الكتاب الثاني جاء يوضح ما أبقاه الكتاب الأول غامضًا، مما يفسر العداء الشديد الذي استقبل به الكتابان معًا: وهو أن الدين لا يستطيع، بحد ذاته، خلق دولة ومجتمع ومدنية. إذ أن نمو المدنية يتوقف على عوامل عدة، ليس الدين سوى واحد منها. وإذا كان للمدنية أن تتقدم، فيجب أن يكون لها قوانين تأخذ بعين الاعتبار جميع تلك العوامل. وبذلك قطع قاسم أمين الصلة التي أقامها محمد عبده بين الإسلام والمدنية. ومع احترامه للإسلام احترامًا كليًا، فقد أعطى المدنية الحق في أن تبني قواعدها الخاصة بها وتعمل على ضوئها. وهذا يعني أن المدنية إنما تحاكم على أساس هذه القواعد. وإذا كان الإسلام هو الدين الحقيقي، فهذا لا يعني ضرورة أن المدنية الإسلامية هي المدنية الفضلى.
لم يتفرد قاسم أمين في دفع فكر محمد عبده في هذا الاتجاه، بل كان هناك فئة ممن احتفظوا بالولاء الفكري لمعلمهم، غير أنهم أخذوا يعدون العدة لمجتمع علماني يبقى الإسلام فيه محترمًا، لكنه لا يكون الموجه للقانون والسياسة. وقد عرفوا، في السنوات الأولى من القرن العشرين، بـ «حزب الإمام»، القائم على مبادئ سياسية مستمدة من تعاليم الإمام محمد عبده. ففي 1907، ولأسباب سنشرحها فيما بعد، أخذت فئات من كبار المصريين تنتظم رسميًا في أحزاب. ومع أن محمد عبده لم يكن حيًا في ذلك الحين، فقد أنشأ أتباعه حزبًا