في القرآن أو الحديث فلا مجال للأخذ والرد، بل علينا أن نتقيد به مهما كانت النتائج. أما إذا لم يكن هناك نص صريح، أو كان هناك نص قابل للتفسيرات العديدة، فعلينا أن نختار واحدًا منها على ضوء المصلحة العامة. فالقواعد والتفسيرات التقليدية ليست مقدسة في مثل هذه الحالات، بل هي عادات بشرية صرف، دخلت على الدين، ويمكنها أن تتغير من وقت إلى وقت، لا بل من بلد إسلامي إلى آخر (15). كذلك يجوز، شرعيًا، تحري تفسير جديد يسد الحاجة شرط أن لا يخرج على مبدأ الشريعة العام (16).
أثار كتاب قاسم أمين عاصفة بالرغم من تحفظه. فظهرت، بعد صدوره ببضعة أشهر، سلسلة من الكتب والنشرات، بعضها يهاجم نظريته وبعضها يؤيدها. وفي 1900، رد قاسم أمين على نقاده بكتاب ثان موضوعه المرأة الجديدة، جاء من بعض الوجوه تكرارًا لآرائه في الكتاب الأول، إلا أن لهجته فيه تغيرت كثيرًا. فهو هنا أكثر جدلًا، كما أن أساس البحث فيه قد تحول تحولًا تامًا. فكأنما انهارت تحت صدمة الغضب واجهة البنيان الإسلامي، فظهر من ورائها بنيان فكري مختلف تمام الاختلاف عنها. لم يعد قاسم أمين هنا يستند إلى نصوص القرآن والشريعة مع تفسيرها بما يعتبره التفسير الصحيح، بل إنه أصبح يستند إلى العلوم والفكر الاجتماعي في الغرب الحديث. وما الإتيان على ذكر هربرت سبنسر أكثر من مرة في كتابه إلا تعبيرًا حيًا عن هذا التحول (17).
وهكذا أصبحت الآن مقاييس الحكم على الأشياء مبادئ القرن التاسع عشر الكبرى: الحرية والتقدم والمدنية. فالحرية تعني استقلال الإنسان في التفكير وفي الإرادة وفي الفعل، شرط بقائه ضمن حدود القوانين واحترامه للمبادئ الخلقية، وعدم خضوعه، خارج هذه الحدود، لإرادة سواه (18). إنها أساس التقدم البشري؛ لكن حرية المرأة، هي بدورها، أساس جميع الحريات الأخرى ومعيار لها. فعندما تكون المرأة حرة، يكون المواطن حرًا.