وجد فيما بعد بعض من أبدى مثل هذه الشكوك بحق تلميذه محمد عبده. وللحكم على هذه الاتهامات حكمًا صحيحًا، لا بد لنا من أن نتذكر أن نظرة الأفغاني إلى الإسلام كانت نظرة الفلاسفة لا نظرة اللاهوتيين السنيين. وبتعبير آخر، لقد قبل الأفغاني بالتوحيد النهائي بين الفلسفة والنبوة، إيمانًا منه بأن ما يتلقاه النبي بالوحي إنما هو عين ما يستطيع الفيلسوف بلوغه بالعقل، مع فارق واحد، هو أن هناك طريقتين مختلفتين للتعبير عن الحقيقة: طريقة المفاهيم الواضحة للخاصة، وطريقة الرموز الدينية للعامة. وليس من شك في أن بين هذه النظرة إلى الإسلام وبين التفكير الحر في أوروبا القرن التاسع عشر هوة، ربما لم يكن من المستحيل إقامة جسر فوقه.
ما دامت هذه هي نظرة الأفغاني إلى الإسلام، فلا مجال للشك في صدق إيمانه به. فمحمد عبده، الذي ربما عرفه أكثر من أي شخص آخر، يصفه بالتقوى والورع، مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية، وبالمثابرة الشديدة على أداء الفرائض، وبالحرص على أن لا يأتي من الأعمال إلا ما يحلله المذهب الحنفي، فيقول: «فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه» (50). والواقع أنه يستحيل علينا فهم تعاليم الأفغاني أو نشاطه السياسي ما لم نكن مقتنعين بأنه آمن من كل قلبه بتعاليم الإسلام الأساسية: كوجود الله والنبوة، والقول بأن محمدًا، خاتم الأنبياء وأعظمهم، قد أرسل للناس أجمعين، وبأن القرآن يحوي كلام الله بلا تحريف. نعم، ربما كان يتساهل مع الفكر الحديث في كثير من الأمور، إلا أنه لم يكن ليقرها شخصيًا. وهو ما كان ليصر على ضرورة تفسير الإسلام تفسيرًا صحيحًا لو لم يكن مؤمنًا بحقيقته. وجوهر حقيقته هذه، في نظر الأفغاني، هو قبل كل شيء، الإيمان بالله تعالى خالق الكون، ورفض جميع المعتقدات القائلة بأن العالم غير مخلوق وبأن الكون أو الإنسان جدير بالعبادة. وعلى الرغم من تساهله في وجوه الخلاف حول العقيدة أو الشريعة، فهو لم يتساهل قط مع أي تهجم على