تحرره منه كليًا أو جزئيًا. وكلما انتصر الدين قضي على الفلسفة، والعكس بالعكس. لذلك سيستمر الصراع بينهما إلى الأبد، ويكون صراعًا مستميتًا لن ينتهي بتغلب الفكر الحر، لأن العقل غير مستحب لدى الجماهير، ولأن تعاليمه لا تفقهها سوى النخبة، ولأن العلم، مهما كان جميلًا، لا يسعه إرواء عطش البشرية إلى المثل العليا القائمة في حقول بعيدة غامضة يعجز الفلاسفة والعلماء عن مشاهدتها أو اكتشافها.

كان الأفغاني، بقوله هذا، يفرط في عرض قضيته. فالإسلام لم يكن، في اعتقاده، مساويًا لسائر الأديان في الصواب أو الخطأ، بل كان الدين الصحيح التام الكامل الوحيد الذي بوسعه تلبية جميع رغبات الروح البشرية. وكان، كغيره من مفكري عصره من المسلمين، مستعدًا لقبول حكم الفكر الأوروبي الحر على المسيحية بأنها غير معقولة وعدوة العلم والتقدم، إلا أنه رأى أن هذا الانتقاد لا ينطبق على الإسلام، لأن الإسلام، على عكس ذلك، يتفق مع المبادئ التي اكتشفها العقل العلمي، لا بل إنه الدين الذي يقتضيه هذا العقل. لقد أخفقت المسيحية بشهادة رينان نفسه. أما الإسلام، فمن شأنه، وهو منسجم مع العقل ومتساهل، أن يخلص العالم العلماني من تلك الفوضى الثورية التي كانت ذكراها لا تزال تلاحق مفكري زمانه من الفرنسيين. إن أحد أسرار انجذاب المسلمين بالأفغاني كامن في أنه حاول أن يقدم لهم إسلامًا يحمل في طياته مرة أخرى رسالة عالمية.

لكن نجاح الأفغاني في تلك المحاولة أوجب عليه أن يثبت أن جوهر الإسلام إنما هو جوهر العقلانية الحديثة ذاتها. على أن مثل هذا الإثبات كان أمرًا محفوفًا بالمخاطر. وقد شعر بعض معاصري الأفغاني بهذا الواقع، فاتهموه بأنه كان مستعدًا لتضحية حقيقة الإسلام في سبيل رفاهية المسلمين الوهمية. بل لقد وجد بين معارفه من شك في إيمانه بحقيقة الإسلام وفي قيامه بواجباته الشرعية. كما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015