لتحرير الإنسان من بربريته، قد تجنح به إلى عدم التساهل. ففي عهد طفولة الجنس البشري، لم يكن بإمكان الإنسان أن يميز بعقله بين الخير والشر ولا بإمكان ضميره المعذب أن يجد الراحة في ذاته. فجاء الدين يفتح له آفاق الأمل، فارتمى في أحضانه. لكنه اضطر، لجهله أسباب الأحداث المحيطة به وأسرار الموجودات، أن يأخذ بإرشادات رؤساء الدين ويأتمر بأوامرهم المفروضة عليه باسم العلي، دون أن يتمكن من تمحيص نفعها أو ضررها (45). إلا أن هذا لم يكن سوى مرحلة عابرة مرت بها الديانات. أما في المرحلة التالية، فقد تحرر الناس من القيود المفروضة على عقولهم، وأعادوا الدين إلى نصابه الصحيح، كما جرى في المسيحية على عهد الإصلاح. ولما كان الإسلام أفتى من المسيحية بعدة قرون، فهو لا يزل ينتظر «إصلاحه» (46)، ويترقب قيام لوثر جديد فيه. (كثيرًا ما كانت هذه الفكرة تراود الأفغاني، ولعله كان يأمل القيام بنفسه بهذا الدور). وإذا ما تم هذا الإصلاح، فالإسلام لا يقل عن أي دين آخر أهلية للقيام بمهمته الجوهرية في الإرشاد الخلقي، كما أثبت في ماضيه. ومن الخطأ تلخيص هذا الماضي في أنه كان انتصارًا أعمى للسنة على العقل، كما يفعل رينان، بل الحقيقة هي أن العلوم العقلية قد ازدهرت فيه، وكانت إسلامية وعربية معًا. فاللغة هي ما يكون الأمم ويميزها الواحدة عن الأخرى. لذلك اقتضى أن تعتبر العلوم المعبر عنها باللغة العربية علومًا عربية. وعلى هذا يمكن للعرب أن يدعوا أن ابن سينا منهم تمامًا مثلما يدعي الفرنسيون بأن مازران ونابوليون منهم. نعم، إن الصراع بين الدين والفلسفة سيبقى أبدًا قائمًا في الإسلام، إلا أن ذلك عائد إلى أن هذا الصراع قائم أبدًا في العقل البشري نفسه.
ثم استطرد الأفغاني إلى القول بأن جميع الأديان، مهما اختلفت أسماؤها، تبقى متشابهة، ولا يمكن أن يقوم بينها وبين الفلسفة أي تفاهم أو تصالح. فالدين يفرض على الإنسان إيمانه، بينما الفلسفة