والخاضعة لتدبير العقل البشري أن تستقر استقرار الدولة القائمة على الدين، لا بل في مقدورها أن تكون أكثر استقرارًا، فتبقى (كما هي حال الفرس! ) بعد أن يتبدل الدين مرتين أو ثلاث. ورأى أيضًا أن اللغة عنصر جوهري في خلق جماعة مستقرة، إذ أن المجتمعات البشرية التي لا تجمعها لغة مشتركة لا يمكن لوحدتها أن تكون ثابتة، كما أنه من السهل على الجماعة التي ليس لها لغة خاصة تعبر بها عن معرفتها ومهارتها أن تخسر ما هي عليه من المعرفة والمهارة (32)، لا بل إن الجماعة الدينية نفسها تكون أقوى فيما لو كانت لها لغة مشتركة. فلو تبنى العثمانيون اللغة العربية دون سواها وجعلوها لغة الإمبراطورية بأسرها، لارتبطت شعوبها برابطتين بدل رابطة واحدة، ولكانت متحدة وقوية (33). ورأى الأفغاني أيضًا أن الرابطة الدينية لا تتعارض مع الروابط القومية القائمة بين أقوام ينتمون إلى أديان مختلفة: من هنا نداؤه إلى المسلمين في مصر والهند قائلًا: «عليكم أن تتقوا الله في ... حسن المعاملة وإحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة» (34). بل من هنا دعوته إلى تضامن طبيعي يتعدى الأمة، هو ذلك التضامن الذي يربط بين جميع شعوب الشرق التي يتهددها التوسع الأوروبي. وقد أعلنت «العروة» في عددها الأول أنها موجهة «إلى الشرقيين عمومًا وإلى المسلمين خصوصًا» (35).

غير أنه يبقى صحيحًا، بالرغم من كل هذا، أن الأفغاني رأى أن ما من نوع من أنواع التضامن الطبيعي، ولا حتى حب الوطن، يمكنه أن يحل في قلوب المسلمين محل الرابطة التي خلقها الإسلام: إذ أن الوحدة الحقيقية في الأمة الإسلامية إنما تقوم على الاعتقاد الديني المشترك. فإذا انعدم هذا، انحل المجتمع. وهو ما اعتقد الأفغاني أنه حاصل في زمانه. وكان يخشى لا أن تضعف الأمة فحسب، بل أن تزول تمامًا، لأن ما وحد الأمة في الماضي إنما هو مؤسسة الخلافة السياسية وجماعة العلماء المحافظين على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015