فالتعصب، بمعنى التضامن، هو القوة التي تحافظ على وحدة المجتمع، وهذه الوحدة إنما تتفكك بدونه. والتعصب، ككل الفضائل البشرية الأخرى، قد يلحقه الفساد، لأنه ليس شريعة بحد ذاته، فهو يخضع لمبدأ الاعتدال أو العدل، هذا المبدأ المنظم للمجتمعات البشرية. وكل تعصب لا يخضع لهذا المبدأ ولا يتسربل بالعدل ينقلب تعصبًا أعمى (29).

والتعصب يقوم على أسس مختلفة. فقد ينبثق عن عقيدة دينية أو عن رابطة طبيعية كاللغة. وفي هذا يجد الأفغاني فرقًا أساسيًا بين المدنيتين الأوروبية والإسلامية. فالاعتقاد الشائع في أوروبا، كما يقول، هو أن التعصب القومي خير بحد ذاته ويؤدي إلى التقدم، وأن التعصب الديني أبدًا تعصب أعمى يحول دون التقدم. فهل كان يفكر بغيزو الذي كان، على رغم اعترافه بدور الكنيسة في تكوين المدنية الأوروبية وفي مدها بفكرة تفوق الشريعة الإلهية على الشريعة الإنسانية وبفكرة أن لا حقوق للقوة المادية على عقل الإنسان وضميره، يعتبرها، بالوقت نفسه، حائلًا دون التقدم، وذاك لنكرانها حق الفرد في التفكير وحؤولها دون استخدام العقل؟ (30). قد يصح هذا، حسب رأي الأفغاني، على المسيحية، لكنه لا يصح على الإسلام، حيث التعصب الديني الأعمى نادر والتعصب الديني الحق ضرورة جوهرية للتقدم.

لكن هذا لا يعني أنه كان ينكر أهمية الروابط القومية أو غيرها من الروابط الطبيعية. فهو يقر بأنه من الممكن قيام دولة فاضلة على أساس العقل البشري كما يمكن قيامها على أساس الشريعة الإلهية. وقد أعرب عن هذا، بتعابير تذكر بالفلاسفة، في تلك المحاضرة التي أدت إلى مغادرته إسطنبول. إذ قال أن الجسم الاجتماعي لا يحيا بدون روح، وأن روح هذا الجسم هي الملكة النبوية أو الملكة الفلسفية ... أما الأولى فهي هبة من الله ... بينما الثانية تنال بالتفكير والدرس (31). وهو يقر كذلك، بأن في مقدور الجماعة القائمة على الفضائل البشرية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015