موطئ قدم لها فيهما (21). قد تبدو هذه النظرة ساذجة، لما في التعبير عنها من مبالغة في الجزم. لكن مجلة «العروة الوثقى» لم تكن عملًا فكريًا دقيقًا، بل نشرة دعائية تساير الزمن وتستهدف تقوية العزائم. وإذا كان الأفغاني لم يذكر شيئًا عن الثورة الصناعية والتقنية، فهذا لا يعني أنه لم يكن متنبهًا لها. فقد كان يعلم أن انتصارات أوروبا إنما تحققت بفضل المعرفة وتطبيقها الصحيح، وأن ضعف الدول الإسلامية راجع إلى الجهل (22). كما كان يعلم أيضًا أن على الشرق أن يتعلم فنون أوروبا المفيدة. إلا أن السؤال الملح في نظره كان: كيف يمكن تعلمها؟ وعليه أجاب: لا يمكن تحصيل تلك الفنون بمجرد التقليد، إذ أن وراءها نظرة فكرية شاملة لا بل نظامًا للخلقية الاجتماعية. فالبلدان الإسلامية ضعيفة، لأن المجتمع الإسلامي فاسد.
وهنا نلمس شيئًا جديدًا في تفكير الأفغاني، أو على الأقل، إلحاحًا جديدًا. فلم يعد الإسلام كدين ما عناه الآن، بل بالأحرى الإسلام كمدنية. فهو يعتبر أن الغاية من أعمال الإنسان ليست خدمة الله فحسب، بل خلق مدنية إنسانية مزدهرة في كل نواحيها. كانت بالحقيقة فكرة المدنية من بذور الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، وقد دخلت العالم الإسلامي خصوصًا بواسطة الأفغاني. وكان «غيزو» أول من عبر عنها تعبيرًا كلاسيكيًا في محاضراته عن تاريخ المدنية في أوروبا. وكان الأفغاني قد قرأ غيزو وتأثر به. وعندما ترجم هذا الأثر إلى العربية في 1877، أوحى الأفغاني إلى محمد عبده بأن يكتب مقالًا للترحيب بالترجمة وليشرح نظرية الكتاب. إن ما بدا له مهمًا في هذا الكتاب وأمثاله إنما كانت فكرة المدنية، التي رأي فيها أهم الأحداث التاريخية ومحك الحكم على الأحداث الأخرى. وكان للمعنى الخاص الذي أضفي على هذه الكلمة أهمية خاصة في نظره، وهو معنى التقدم الذي كان ينشده ويسعى إليه، معنى «الشعب الناشط لتغيير حاله»، وبالتخصيص، معنى