ولم يغب هذا الدرس عن خاطر عبد الحميد. إذ أنهى الأفغاني حياته أشبه بسجين في بلاط السلطان وإن أحيط بالإكرام.

ترك الأفغاني في جميع من عرفوه انطباعًا قويًا، ولو لم يكن مبهجًا، عن رجل مخلص لعقيدته، عنيد، متقشف، سريع الغضب للشرف والدين، عنيف يستحيل ترويضه، أو على حد تعبير بلنط، «عبقري بري» (16).

وكان الأفغاني يعرف لغات عدة، ويحب التحدث إلى أصدقائه بلا انقطاع في مقاهي القاهرة أو في سجنه المذهب في إسطنبول، كما كان خطيبًا يثير الجماهير. غير أنه لم يكن يحب الكتابة، ولم يكتب بالفعل إلا القليل. وقد نشر آراءه العامة في مقالاته السياسية وعدد قليل من المؤلفات الصغيرة؛ ككتابه في «الرد على الدهريين»، ورسالته في الرد على محاضرة لرينان عن «الإسلام والعلم»، وافتتاحياته في «العروة الوثقى». غير أنه بالإمكان، استنادًا إلى هذه المصادر، وإلى تلخيصات لأحاديث وضعها بعض تلاميذه، أن نكون لنا فكرة واضحة عن تعاليمه.

وقف الأفغاني الشطر الأكبر من حياته على الدفاع عن البلدان الإسلامية المهددة بخطر التوسع الأوروبي، إلا أن تفكيره لم يقتصر على السياسة. فالقضية الأساسية لديه، القضية التي قولبت تفكيره، لم تكن التساؤل عن كيفية جعل البلدان الإسلامية قوية وناجحة بقدر ما كانت التساؤل عن كيفية إقناع المسلمين بأن عليهم أن يفهموا دينهم الفهم الصحيح، وأن يعيشوا وفقًا لتعاليمه. فلو أنهم فعلوا، لغدت بلادهم قوية حتمًا. ولم يكن ليتغير جوهر هذه القضية، لو أن البلاد لم تجابه الخطر الخارجي؛ إلا أن ازدياد قوة أوروبا وضغطها جعلها، بالطبع، أشد إلحاحًا في نظره. لقد عاش الأفغاني في زمن فوجئ بسيادة القوة الأوروبية على أنحاء العالم، بحيث لم يكن هناك من بلد، مهما بدا بعيدًا وثابت الاستقلال، إلا شعر بضغط الدول الأوربية وتنافسها، وبحيث لم يعد بالإمكان حل أي قضية سياسية،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015