ثمانية عشر مجلدًا من مجلة عربية تدعى «العروة الوثقي»، خصصت معظم صفحاتها لتحليل سياسة الدول الكبرى في العالم الإسلامي، وبنوع خاص سياسة إنكلترا في مصر والسودان، كما عالجت موضوع ضعف الإسلام الداخلي وحثت المسلمين على التنبه له ومداواته. كانت لغة المجلة لغة محمد عبده، أما التفكير فيها فكان تفكير الأفغاني (12). وهكذا أصبحت، بفضل لغتها وفكرها معًا، من أشد المجلات العربية تأثيرًا. وقد عم انتشارها بالرغم من حظر دخولها إلى البلدان العربية الواقعة تحت النفوذ البريطاني. ولأكثر من واحد من مفكري الجيل اللاحق شهادة على التأثير العميق الذي أحدثته فيه قراءة مجلد منها عثر عليه بعد عدد من السنين.
أثارت شخصية الأفغاني وآراؤه، في أثناء إقامته في باريس، كثيرًا من الاهتمام بين الأوروبيين المعنيين بشؤون العالم الإسلامي. وقد دخل في نقاش مع رينان حول موقف الإسلام من العلم، وقام، بين 1884 و 1885، بمفاوضات مع رجال دولة بريطانيين حول مستقبل مصر والسودان، مهد لها «ولفريد بلنط». كان هذا شاعرًا ثانويًا لا بأس به، وأرستوقراطيًا ثوريًا على طريقته الخاصة، وذا طابع عاطفي حساس، ووطنيًا على الطراز القديم أغضبه عدم أناقة الاستعمار الجديد، ورومنطيقيًا كره تمدن القرن التاسع عشر الميكانيكي، ومولعًا بالأرجاء الغريبة والخيول العربية. وقد طاف مع زوجته الصحاري السورية والعربية بين 1877 - 1879، وتوغلا حتى نجد في 1879، حيث بدت لهما مملكة ابن الرشيد الصغيرة القائمة على أنقاض الدولة الوهابية الأولى تجسيدًا للمثال الأعلى للحرية الإنسانية بمساواتها المستندة إلى البساطة وعدلها القائم على النظام الأبوي القديم، وذلك بالرغم من قسوتها البدائية التي لم يلاحظاها أو ربما حبذاها. وفي 1880 استقر بلنط برهة في مصر لتقوية لغته العربية ودراسة الحركات والقضايا الحديثة في الإسلام. وهناك تعرف إلى محمد عبده، وسمع للمرة الأولى بالأفغاني،