والراديكالية الأوروبية، إنما تجسدت كلها في شخصية رجل مدهش، لامست حياته مشاعر العالم الإسلامي بكامله في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأثرت فيه تأثيرًا عميقًا. لقد كتب الكثير عن جمال الدين الأفغاني (1739 - 1897)، وكانت حياته نفسها صفحة مفتوحة للملأ، غير أن شيئًا من الغموض لا يزال يحيط بها (7). فقد ادعى أنه من السادة، أي من أحفاد النبي، وليس من داع للشك في ذلك. لكن هل كان أفغانيًا، كما كان يقول هو، أم فارسيًا، كما كان يدعي أخصامه؟ كان الشيخ أبو الهدى، عدوه في آخر أيامه، يسميه «بالمتأفغن»، ويؤكد أنه كان بالحقيقة فارسيًا من مازندران (8). ولهذه المسألة بعض الأهمية، لأنه إذا كان فارسيًا، وجب أن يكون شيعيًا، وهذا ما قصد إليه خصومه وما نفرض أنه رغب هو في نفيه بالإصرار على أفغانيته. وهناك كتاب يدعي فيه مؤلفه الفارسي أنه ابن أخته، ويورد فيه من قرائن الحال القوية ما يعزز القول بأنه فارسي المولد والتربية، شيعي بالوراثة والدراسة (9)، كما يذكر فيه أيضًا أن جمال الدين درس في مدينتي النجف وكربلاء الشيعيتين. ولعلنا نستدل على حقيقة ذلك في مؤلفاته وخطبه، التي تنم عن معرفة أكيدة بتراث الفلسفة الإسلامية، خصوصًا فلسفة ابن سينا. وقد كانت مثل هذه المعرفة سهلة المنال آنئذ في المدارس الشيعية، حيث بقيت تعاليم ابن سينا حية فيها أكثر مما بقيت حية في مدارس الإسلام السني. ومهما يكن من أمر، فإن جمال الدين يظهر للمرة الأولى، على مسرح الحياة العامة، كشاب يطوف الهند، ويستزيد فيها من علوم أوروبا الحديثة. ثم نجده في أفغانستان، يحاول أن يلعب دورًا قياديًا في سياستها المحلية، فيصيب قدرًا ضئيلًا من النجاح. ومن هناك قصد إسطنبول عن طريق مصر وتعرف في الفترة القصيرة التي قضاها فيها بطالب شاب من الأزهر اسمه محمد عبده، فكان لذلك التعارف أثر حاسم في حياتهما. أما في إسطنبول، فقد وجد في علي باشا، رجل الدولة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015