بهذه المدنية، فقد كان عليهما أن يدافعا عن المدنية الحديثة بمفاهيم إسلامية تقليدية. أما المسيحيون الناطقون بالضاد، الذين كانوا قد اتصلوا بأوروبا بواسطة مدارس الإرساليات والتجارة، فلم تجابههم هذه القضية، بل جابهتهم قضية أخرى تخصهم وحدهم. فأوروبا لم تكن غريبة عنهم كما كانت عن المسلمين، لذلك لم يشعروا، إذا هم قبلوا بأفكارها وأساليب حياتها، بأنهم غير منسجمين مع أنفسهم، أو بأنهم بحاجة إلى تبرير عملهم أمام معاصريهم أو أجدادهم. لكن التفكير الأوروبي الحديث، الدائر حول الحقوق والواجبات وطبيعة المجتمع وفضائله، قد أثار عندهم، كجماعات مقفلة تعيش خارج نطاق الحياة السياسية، أسئلة لم يكونوا في وضع يسمح لهم بالإجابة عليها. وأن ما أثار هذه المسألة، بإلحاح أشد، هو بيانات المبادئ الكبرى الصادرة عن السلاطين في 1839 و 1856 (62)، والتي كانت تحمل معاني مختلفة بالنسبة للمسلمين والمسيحيين. فبينما كان المهم فيها للمسلمين استعادة قوتهم، كان ما يهم المسيحيين منها تأكيدها على حقوقهم.
وقد أضيف إلى هذا العامل عامل آخر، هو انصراف المسيحيين إلى تعلم اللغة العربية في القرن الثامن عشر لأغراض عملية أدت إلى شغفهم بالغة وآدابها. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، خرج من لبنان المسيحي أول أستاذ كبير للعربية، هو الشيخ ناصيف اليازجي (1800 - 1871) الذي، بعد أن صرف حداثته في خدمة سيد لبنان الأمير بشير، استقر في مسقط رأسه قرب بيروت لتدريس اللغة العربية. وقد تجلى في شعره وفي مقاماته امتلاكه الكامل لناصية اللغة وأساليبها التقليدية. وقد كان جميع كتاب العصر من العرب، مباشرة أو مداورة، من تلاميذه. لكن الشيخ ناصيف قصر اهتمامه باللغة العربية على أسلوب التعبير الأدبي، أما هؤلاء الكتاب فقد اتخذ اهتمامهم باللغة، على شدته أيضًا، شكلًا آخر. إذ غدا، قبل كل شيء، اهتمامًا يجعل اللغة العربية أداة صالحة