يؤكد خير الدين لقرائه أن تقدم أوروبا لم يكن قط ناجمًا عن كونها مسيحية. فالمسيحية دين يستهدف السعادة في الآخرة، لا في هذه الدنيا. ولو كانت هي سبب التقدم الدنيوي، لكانت دولة البابا أرقى الدول، لا أكثرها تأخرًا في أوروبا (54). وعلى هذا، فليس على الدول الإسلامية أن تتبنى الدين المسيحي إذا هي حاولت اقتباس أسباب التقدم الأوروبي، بل عليها فقط أن تتبنى ما يعادل المؤسسات الإسلامية القديمة من مؤسسات حديثة. ويبذل خير الدين جهده لتوضيح هذا التعادل، فيتساءل ما هي المؤسسات التي تتميز بها أوروبا الحديثة؟ إنها الوزارات المسؤولة، والبرلمانات، وحرية الصحافة. والواقع أن الفكرة الحديثة عن مسؤولية الوزير لا تختلف كثيرًا عن الفكرة الإسلامية عن الوزير الصالح، الذي يسدي النصح بدون خوف ولا تملق (55). كذلك البرلمانات والصحافة، فإنما هي معادلة «للمشورة» في الإسلام. وما أعضاء البرلمان اليوم إلا العلماء والأعيان في الدولة الإسلامية قديمًا، أي «أهل الحل والعقد» (56). وعلى هذا لا يكون تبني المؤسسات الأوروبية، بالحقيقة، إلا تطبيقًا لروح الشريعة وتحقيقًا لغايتها.

ولكي يثبت ذلك يأتي بتفسير للشريعة يبدو مستقى من الفقهاء الحنبلين المتأخرين، مع أن السبل التي وصل إليه منها ليست واضحة. فيقول إن الشريعة هي من مصدر إلهي، وهي أساس الفلاح في هذه الدنيا وفي الآخرة. غير أنها ليست قانونًا محددًا ومفصلًا يأمر بكل ما يجب على الفرد أو على الحكومة القيام به. وينهي عن كل ما لم يأمر به. بل هي، بالحقيقة، خلافًا لذلك. إذ تجيز كل ما لم تنه صراحة عنه، إذا اقتضته الضرورة الاجتماعية. إن مبدأ المصلحة، أي مبدأ اختيار التفسير أو الحكم الذي يفضي إلى الخير الأعظم، يجب أن يكون رائد الحكومة الأول. ويستشهد خير الدين بابن قيم الجوزية، أحد الفقهاء الحنبلين، القائل بأن على الحكومة أن تتجنب،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015