في الماضي قد أهملوها فتخلفوا عن ركب التقدم بسبب سيطرة الأتراك والمماليك، وبأن المسلمين قادرون، بل ملزمون بدخول تيار المدنية الحديثة، وذلك بتبني العلوم الأوروبية وثمارها. ولقد أصبحت جميع هذه الأفكار من المسلمات لدى المفكرين اللاحقين؛ غير أن بعض هؤلاء فقط تنبهوا إلى ما تنطوي عليه من مشاكل قد لا يكون حلها مستحيلًا، وإنما هي بحاجة إلى المعالجة على الأقل. فكيف التوفيق مثلًا بين ما أتي به الوحي الإلهي وبين ما يدعيه العقل البشري من أنه هو الطريق الوحيدة الصالحة للمعرفة؟ أو بين الشريعة وبين مجموعة القوانين الحديثة المستمدة من مبادئ مختلفة كل الاختلاف عنها؟ أو بين الفكرة القائلة بأن السيادة للشريعة وبين ادعاء الحكومات بأنها صاحبة السيادة وبأن لها الحق في التقرير الحر على ضوء الاستنساب والخير العام؟ أو بين الولاء للجماعة الدينية والولاء للأمة؟
لقد أثار إحدى هذه المسائل، على الأقل، مفكر آخر من معاصري الطهطاوي، اطلع الطهطاوي على كتابه في هذا الموضوع (38)، وهي مسألة الشريعة الإلهية والشريعة البشرية. لم تكن هذه المسألة غائبة عن ذهن الطهطاوي، إلا أنها لم تكن محور اهتمامه. فالشريعة كانت في نظره، كما كانت في نظر المفكرين المسلمين في القرون الوسطى المتأخرة، عاملًا سلبيًا مقيدًا، يضع الحدود التي من ضمنها يجب على الحاكم أن يعمل، لا المبادئ التي بمقتضاها يجب أن يعمل. ولم يتجاوز محمد علي وإسماعيل هذه الحدود إذ كانا من طراز الأوتوقراطيين الطيبين الذين ألفهم الفكر الإسلامي. ثم أنهما لم يثيرا مشاكل جديدة، إذ حرصا على عدم إصدار بيانات جديدة بالمبادئ التي من شأنها أن تتعارض مع مبادئ الشريعة. بل اكتفيا، في الغالب، من الإصلاح والتجديد بما يقع في دائرة الحياة الاقتصادية والإدارية التي لم تتصد لها الشريعة إلا قليلًا، كما تحاشيا التعرض لمؤسسات المجتمع الأساسية أو لمسائل الأحوال الشخصية، وهو ما