غير أنه علينا أن نتذكر أن للمدنية أساسين اثنين لا أساسًا واحدًا، وأن الفضيلة الخلقية هي أهم من الرفاهية المادية. فهذه ليست، على المدى الطويل، سوى ثمرة للفضائل. قلنا إن أوروبا لم تبد للطهطاوي خطرًا سياسيًا، لكنه كان يشعر بأنها خطر خلقي: فالفرنسيون لا يعتقدون إلا بالعقل البشري. نعم، يشتمل دستورهم على مبدأ العدل، إلا أن هذا المبدأ يختلف كثيرًا عن أحكام الشريعة الإلهية (36). هم مسيحيون بالاسم فقط، أما دينهم الحقيقي فهو شيء يختلف تمامًا عن ذلك. وفي هذا يقول: «إن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح من شأن العقل. وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلًا، وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير واجتناب ضده وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان ... وأن عقول حكامهم ... أعظم من عقول الأنبياء» (37).

كانت نظرة الفكر الأوروبي الوضعية هذه، هي الاتجاه الذي سيعنى به الجيل اللاحق من الكتاب عناية خاصة، ويعمل على إثبات عدم منافاته لمبادئ الإسلام إذا ما فهمت فهمًا صحيحًا. أما الطهطاوي فكان لا يزال مشدودًا بجذوره إلى المعتقدات الموروثة، فلم ير بوضوح سوى التناقض بين الاثنين، لا إمكانية التوفيق بينهما.

تنطوي كتابات الطهطاوي على أفكار جديدة أصبحت مألوفة فيما بعد في الفكر العربي والإسلامي: كالقول بأن هناك، داخل الأمة الجامعة، جماعات قومية تنادي بولاء أبنائها لها، وبأن الغرض من الحكم رفاهية البشر في هذا العالم وفي الآخرة على حد سواء، وبأن الرفاهية الإنسانية تتحقق بإنشاء المدنية التي هي الغاية الزمنية النهائية للحكم، وبأن أوروبا الحديثة، وخصوصًا فرنسا، هي مثال التمدن، وبأن سر تقدم أوروبا وعظمتها يكمن في تعاطي العلوم العقلية، وبأن المسلمين أنفسهم الذين تعاطوا العلوم العقلية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015