تتناوله الشريعة بإسهاب. وفضلًا عن ذلك، فقد حكما دولة كانت فيها السلطة الفعلية، من مدة طويلة، في يد زمرة عسكرية عجز العلماء عن أن يحولوا عمليًا دون ممارستها هذه السلطة، حتى لو أرادوا ذلك، ولم يكن، بالواقع، من داع لإثارة مسألة التوافق بين تلك التجديدات وبين الشريعة. غير أن هذه المسألة كانت مطروحة فعلًا في أراضي الإمبراطورية الرئيسية وبعض المناطق التابعة لها. إذ أن «التنظيمات» لم ترم إلى تغيير نظام الإمبراطورية العسكري والإداري فحسب، بل رمت أيضًا إلى إقامتها على أساس شرعي وخلقي جديد. لذلك اصطدمت بمقاومة عنيدة من قبل المعارضين لها مبدئيًا، ومن قبل أولئك الذين رأوا فيها خطرًا على احتكارهم للجهاز الشرعي وعلى نفوذهم السياسي والاجتماعي. لذلك كان محور اهتمام المدافعين عن «التنظيمات» مسألة شرعيتها. فكان عليهم أن يثبتوا أن الإصلاحات لم تتعارض والشريعة، لا بل أن الشريعة توجبها حقًا. لقد جرى هذا الصراع في إسطنبول باللغة التركية، ويبدو أن اللغة العربية لم تردد له سوى أصوات خافتة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لكن هناك ولاية في الإمبراطورية جرت فيها إصلاحات مماثلة أثارت اعتراضات مماثلة. فقد كان «عهد الأمان» في تونس إعلانًا لمبادئ قانونية وسياسية جديدة، ولذلك طرح على بساط البحث مسألة الشرعية. وكانت هذه المسألة نقطة الانطلاق لدى مفكر سنتناوله الآن، هو خير الدين باشا.
ولد خير الدين عام 1810 في القوقاز، من عائلة شركسية، ثم جيء به وهو فنى إلى إسطنبول، أسوة بالكثيرين من أبناء منطقته، طلبًا لمهنة عسكرية أو سياسية، كخادم أو مملوك عند أحد الزعماء (39). فدخل في خدمة أحمد، باي تونس، وتلقى تربية دينية وعصرية معًا، وتعلم اللغة الفرنسية، فضلًا عن العربية. وعندما أنهى دروسه، دخل الجيش حيث أكسبته مواهبه عطف الباي. فعهد إليه بإدارة المدرسة العسكرية ردحًا من الزمن. وفي 1852،