ومن السنة النبوية ما ثبت من استشارته - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في مختلف شؤون المسلمين، مما ليس فيه وحي جازم، كاستشارته إياهم في غزوة بدر، وغزوة أُحد، والخندق، واستشارته لهم في أساري بدر، وفي صلح الحديبية، والأمثلة كثيرة كثيرة.
والدليل على أن الطائفة الأولي من الأحكام لا مجال للشورى فيها، قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} (سورة الأحزاب: 36) وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستشير في شيء من هذه الأحكام أصحابه، بل كان يلزم نفسه وإياهم بها كما وردت.
ولكن ينبغي أن تعلم أنه لا يوجد للشورى أي أثر ملزم للإمام الذي يستشير: أي أن الإمام ليس ملزماً أن يأخذ رأي الأكثرية مثلاً من مجلس شوراه، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من النظم الديموقراطية. بل إن واجب الإمام أن يستعين بما عند أهل العلم والبصيرة من وجوه الرأي، وأن يتبصر بما عندهم من العلم والنظر، لعل لديهم من ذلك ما لم يتنبه هو إليه، فإذا استعرض وجوه النظر والاجتهادات كلها، كان عليه بعد ذلك أن يتخير أقربها إلي الصحة، وأشبهها بالحكم الإلهي الثابت في علم الله عز وجل، وقد علمت أن الحديث إنما هو عن الإمام الذي توفرت فيه شروط الإمامة من علم وصل إلي درجة الاجتهاد، وإخلاص في الدين، وأمانة في الخلق.
وخلاصة الفرق أن مجلس الشورى في النظم الوضعية مشرع، ومن ثم فإن رأي الأكثرية ملزم، ومجلس الشورى في الشريعة الإسلامية ناقب وباحث عن حكم الله عز وجل، فهو ليس مشرع، ولذلك يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة، إذ قد يهتدي إلى حكم الله عز وجل واحد منهم، أو كثرة ساحقة فيهم. فأيهم ظهر الحق على لسانه وجب إتباعه، وإنما يفوقهم الإمام بمزيد من البصيرة الدالة على حكم الله عز وجل، بدليل ما وقع عليه إجماعهم من مبايعته وارتضائه حاكماً فيهم مقدماً بينهم، فكان في اختياره لواحد من الآراء ما يدل على رجحانه على غيره، ومن ثم فإنه يجب على كافة المسلمين إتباعه، والاجتماع عليه.