فَإِنْ قَالَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الظُّنُونِ، وَمَنْ أَنْكَرَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ إلَّا عَلَى حَسَبِ تَعَلُّقِهِ بِاعْتِقَادَاتِ الْمُعْتَقِدِينَ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقٌّ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ وَمُعْتَقِدِهِ، وَلَا حَقِيقَةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الظُّنُونَ قَدْ يَجُوزُ تَعَلُّقُهَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَجَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ كُلُّ ظَانٍّ مِنْهُمْ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ، إذْ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ، وَلِرَمْيِ الْكَافِرِ، وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَنَحْوِهَا. وَنَحْوُ رَجُلَيْنِ الْتَقَيَا لَيْلًا فَغَلَبَ فِي ظَنِّ كُلِّ (وَاحِدٍ) مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ قَاصِدٌ لِقَتْلِهِ، قَدْ أُبِيحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَمَلُ عَلَى (مَا غَلَبَ) فِي ظَنِّهِ، وَقَتْلُ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ، وَجَمِيعًا مُطِيعَانِ فِيمَا يَأْتِيَانِهِ، مُصِيبَانِ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا. إذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقًا بِالظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ. وَحَقِيقَةُ الْعِلْمِ قَدْ تَعَبَّدَ اللَّهَ تَعَالَى الْحُكَّامُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظُنُونِهِمْ عِنْدَ التُّهَمِ، وَإِلْغَاءِ شَهَادَةِ مَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِمْ فِسْقُهُ، فَكَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَحْكَامًا مُتَعَلِّقَةً بِالظُّنُونِ، قَدْ وَرَدَ (بِهِ نَصُّ) الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. وَاخْتِلَافُ الظُّنُونِ فِيهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي حَقَائِقِهَا.

وَأَمَّا الْعُلُومُ فَلَيْسَتْ هَذِهِ سَبِيلَهَا، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ عِلْمَانِ مُتَضَادَّانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ.

أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا وَاحِدًا، هَذَا مَوْجُودًا وَهَذَا مَعْدُومًا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَظُنَّهُ هَذَا مَوْجُودًا، وَيَظُنَّهُ آخَرُ مَعْدُومًا، فَيَصِحُّ وُقُوعُ الظَّنِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015