{قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} وَإِن كل كلمة قَائِمَة الْمَعْنى يعلم إِذا تليت أَنَّهَا من الْقُرْآن فَإِنَّهَا معْجزَة لَا يقدر أحد على الْمَجِيء بِمِثْلِهَا أبدا لِأَن الله تَعَالَى حَال بَين النَّاس وَبَين ذَلِك كمن قَالَ إِن آيَة النُّبُوَّة أَن الله تَعَالَى يُطلقنِي على الْمَشْي فِي هَذِه الطَّرِيق الْوَاضِحَة ثمَّ لَا يمشي فِيهَا أحد غَيْرِي أبدا أَو مُدَّة يسميها فَهَذَا أعظم مَا يكون من الْآيَات وَإِن الْكَلِمَة الْمَذْكُورَة أَنَّهَا مَتى ذكرت فِي خبر على أَنَّهَا لَيست قُرْآنًا فَهِيَ غير معْجزَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّص وَالَّذِي عجز عَنهُ أهل الأَرْض مذ أربعماية عَام وَأَرْبَعين عَاما وَنحن نجد فِي الْقُرْآن إِدْخَال معنى بَين مَعْنيين لَيْسَ بَينهمَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا وَمَا بَين ذَلِك} وَلَيْسَ هَذَا من بلاغة النَّاس فِي ورد وَلَا فِي صدر وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
الْكَلَام فِي الْقُدْرَة
قَالَ أَبُو مُحَمَّد اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْبَاب فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن الْإِنْسَان مجبر على أَفعاله وَأَنه لَا استطاعة لَهُ أصلا وَهُوَ قَول جهم بن صَفْوَان وَطَائِفَة من الْأزَارِقَة وَذَهَبت طَائِفَة أُخْرَى إِلَى أَن الْإِنْسَان لَيْسَ مجبراً وأثبتوا لَهُ قُوَّة واستطاعة بهَا يفعل مَا اخْتَار فعله ثمَّ افْتَرَقت هَذِه الطَّائِفَة على فرْقَتَيْن فَقَالَت إِحْدَاهمَا الِاسْتِطَاعَة الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل وَلَا يتقدمه الْبَتَّةَ وَهَذَا قَول طوائف من أهل الْكَلَام وَمن وافقهم كالنجار والأشعري وَمُحَمّد بن عِيسَى برعوت الْكَاتِب وَبشر بن غياث المريسي وَأبي عبد الرَّحْمَن العطوي وَجَمَاعَة من المرجئة والخوارج وَهِشَام بن الحكم وَسليمَان بن جرير وأصحابهما وَقَالَت الْأُخْرَى أَن الِاسْتِطَاعَة الَّتِي يكون بهَا الْفِعْل هِيَ قبل الْفِعْل مَوْجُودَة فِي الْإِنْسَان وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَطَوَائِف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمرَان وَصَالح فِيهِ وَالنَّاسِي وَجَمَاعَة من الْخَوَارِج والشيعة ثمَّ افترق هَؤُلَاءِ على فرق فَقَالَت طَائِفَة إِن الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل وَمَعَ الْفِعْل أَيْضا للْفِعْل ولتركه وَهُوَ قَول بشر بن الْمُعْتَمِر الْبَغْدَادِيّ وَضِرَار بن عَمْرو والكوفي وَعبد الله بن غطفان وَمعمر بن عمر والعطار الْبَصْرِيّ وَغَيرهم من الْمُعْتَزلَة وَقَالَ أَبُو الهزيل مُحَمَّد بن الهزيل الْعَبْدي الْبَصْرِيّ العلاف لَا تكون الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل الْبَتَّةَ وَلَا تكون إِلَّا قبله وَلَا بُد وتفنى مَعَ أول وجود الْفِعْل وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن سيار النظام وَعلي الإسواري وَأَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم لَيست الِاسْتِطَاعَة شَيْئا غير نفس المستطيع وَكَذَلِكَ أَيْضا قَالُوا فِي الْعَجز أَنه لَيْسَ شَيْئا غير الْعَاجِز إِلَّا النظام فَإِنَّهُ قَالَ هُوَ آفَة دخلت على المستطيع
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَأَما من قَالَ بالإجبار فَإِنَّهُم احْتَجُّوا فَقَالُوا لما كَانَ الله تَعَالَى فعالاً وَكَانَ لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه وَجب أَن لَا يكون أحد فعالاً غَيره وَقَالُوا أَيْضا معى إِضَافَة الْفِعْل إِلَى الْإِنْسَان إِنَّمَا هُوَ كَمَا تَقول مَاتَ زيد وَإِنَّمَا أَمَاتَهُ الله تَعَالَى وَقَامَ الْبناء وَإِنَّمَا أَقَامَهُ الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَخطأ هَذِه الْمقَالة ظَاهر بالحس وَالنَّص وباللغة الَّتِي بهَا خاطبنا الله تَعَالَى وَبهَا نتفاهم فَأَما النَّص فَإِن الله عز وَجل قَالَ فِي غير مَوضِع من الْقُرْآن {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} {لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وهملوا الصَّالِحَات فنص تَعَالَى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وَأما الْحس فَإِن بالحواس وبضرورة الْعقل وببديهة علمنَا يَقِينا علما لَا يخالج فِيهِ الشَّك أَن