بَين الصَّحِيح الْجَوَارِح وَبَين من لَا صِحَة بجوارحه فرقا لائحاً لجوارحه لِأَن الصَّحِيح الْجَوَارِح يفعل الْقيام وَالْقعُود وَسَائِر الحركات مُخْتَارًا لَهَا دون مَانع وَالَّذِي لَا صِحَة لجوارحه لَو رام ذَلِك جهده لم يَفْعَله أصلا وَلَا بَيَان أبين من هَذَا الْفرق والمجبر فِي اللُّغَة هُوَ الَّذِي يَقع الْفِعْل مِنْهُ بِخِلَاف اخْتِيَاره وقصده فَأَما من وَقع فعله بِاخْتِيَارِهِ وقصده فَلَا يُسمى فِي اللُّغَة مجبراً وَإِجْمَاع الْأمة كلهَا على لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه مُبْطل قَول الْمُجبرَة وَوَجَب أَن لنا حولا وَقُوَّة وَلَكِن لم يكن لنا ذَلِك إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى وَلَو كَانَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْجَهْمِية لَكَانَ القَوْل لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه لَا معنى لَهُ وَكَذَلِكَ قَول تَعَالَى {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} فنص تَعَالَى على أَن لنا مَشِيئَة إِلَّا أَنَّهَا لَا تكون منا إِلَّا أَن يَشَاء الله كَونهَا وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَمن عرف عناصر الْأَشْيَاء من الْوَاجِب والممتنع والممكن أَيقَن بِالْفرقِ بَين صَحِيح الْجَوَارِح وَغير صَحِيحا لِأَن الْحَرَكَة الاختيارية بِأول الْحس هِيَ غير الاضطرارية وَإِن الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ من ذِي الْجَوَارِح المؤوفة مُمْتَنع وَهُوَ من ذِي الْجَوَارِح الصَّحِيحَة مُمكن وإننا بِالضَّرُورَةِ نعلم أَن المقعد لَو رام الْقيام جهده لما أمكنه ونقطع يَقِينا أَنه لَا يقوم وَأَن الصَّحِيح الْجَوَارِح لَا نَدْرِي إِذا رَأَيْنَاهُ قَاعِدا أيقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذَلِك مِنْهُ مُمكن وَإِمَّا من طَرِيق اللُّغَة فَإِن الْإِجْبَار وَالْإِكْرَاه والاضطرار وَالْغَلَبَة أَسمَاء مترادفة وَكلهَا وَاقع على معنى وَاحِد لَا يخْتَلف وُقُوع الْفِعْل مِمَّن لَا يؤثره وَلَا يختاره وَلَا يتَوَهَّم مِنْهُ خلَافَة الْبَتَّةَ وَأما من آثر مَا يظْهر مِنْهُ من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إِلَيْهِ هَوَاهُ فَلَا يَقع عَلَيْهِ اسْم إِجْبَار وَلَا اضطرار لكنه مُخْتَار وَالْفِعْل مِنْهُ مُرَاد متعمد مَقْصُود وَنَحْو هَذِه الْعبارَات عَن هَذَا الْمَعْنى فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي نتفاهم بهَا فَإِن قَالَ قَائِل فَلم أَبَيْتُم هَا هُنَا من إِطْلَاق لَفْظَة الِاضْطِرَار وأطلقتموها فِي المعارف فقلتم أَنَّهَا باضطرار وكل ذَلِك عنْدكُمْ خلق الله تَعَالَى فِي الْإِنْسَان فَالْجَوَاب أَن بَين الْأَمريْنِ فرقا بَينا وَهُوَ أَن الْفَاعِل متوهم مِنْهُ ترك فعله وممكن ذَلِك مِنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِك مَا عرفه يَقِينا ببرهان لِأَنَّهُ لَا يتَوَهَّم الْبَتَّةَ انْصِرَافه عَنهُ وَلَا يُمكنهُ ذَلِك أصلا فصح أَنه مُضْطَر إِلَيْهَا وَأَيْضًا فقد أثنى الله عز وَجل على قوم دَعوه فَقَالُوا {وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} وَقد علمنَا أَن الطَّاقَة والاستطاعة وَالْقُدْرَة وَالْقُوَّة فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة أَلْفَاظ مترادفة كلهَا وَاقع على معنى وَاحِد وَهَذِه صفة من يُمكن عَنهُ الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ أَو تَركه بِاخْتِيَارِهِ وَلَا شكّ فِي أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين دعوا هَذَا الدُّعَاء قد كلفوا شيا من الطَّاعَات والأعمال وَاجْتنَاب الْمعاصِي فلولا إِن هَا هُنَا أَشْيَاء لَهُم بهَا طَاقَة لَكَانَ هَذَا الدُّعَاء حمقاً لأَنهم كَانُوا يصيرون داعين الله عز وَجل فِي أَن لَا يكلفهم مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ وهم لَا طَاقَة لَهُم بِشَيْء من الْأَشْيَاء فَيصير دعاؤهم فِي أَن لَا يكلفوا مَا قد كلفوه وَهَذَا محَال من الْكَلَام وَالله تَعَالَى لَا يثني على الْمحَال فصح بِهَذَا إِن هَا هُنَا طَاقَة مَوْجُودَة على الْأَفْعَال وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق

وَأما احتجاجهم بِأَن الله تَعَالَى لما كَانَ فعالاً وَجب أَن لَا يكون فعال غَيره فخطأ من القَوْل لوجوه أَحدهَا أَن النَّص قد ورد بِأَن للْإنْسَان أفعالاً وأعمالاً قَالَ تَعَالَى {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فَأثْبت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015