أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ عِنْدَنَا دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ فَتَعَيَّنَ التَّرْكُ إجْمَاعًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ الْجَازِمَةَ شَرْطٌ وَهِيَ هَاهُنَا مُتَعَذِّرَةٌ، وَكُلُّ قُرْبَةٍ بِدُونِ شَرْطِهَا حَرَامٌ فَصَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ حَرَامٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ حَرَامٌ لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالنَّدْبِ لَا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» .
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا الْأَكْلُ بِاللَّيْلِ رُخْصَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَالْأَصْلُ فِي اللَّيْلِ الصَّوْمُ، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رُخِّصَ فِيهِ فَكَانَ مَنْ نَامَ لَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَطْءُ امْرَأَتِهِ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ،
ـــــــــــــــــــــــــــــSقَوْلُهُ مَعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ بَلْ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ لَا عَلَى الْقَطْعِ بَلْ عَلَى الشَّكِّ، وَهُوَ مَمْنُوعُ الصَّوْمِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، وَعَلَى هَذَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِنَا بِالْمَنْعِ مِنْ صَوْمِهِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ فَصَوْمُهُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ فَجَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ، وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ.
قَالَ: (أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا إلَى قَوْلِهِ «فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ) قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ لِتَعَذُّرِ النِّيَّةِ الْجَازِمَةِ وَبَيْنَ النَّدْبِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَتْ النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ شَرْطًا إلَّا مَعَ عَدَمِ تَعَذُّرِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْحَدِيثُ إنْ صَحَّ.
قَالَ: (وَأَمَّا الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا الْأَكْلُ بِاللَّيْلِ رُخْصَةٌ إلَى قَوْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQخِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَشْهُورِ مَالِكٍ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَعِنْدَهُمَا نَذْرُ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَنْعَقِدُ وَنَذْرُ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ الصَّلَاةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تُبْرِئُ الذِّمَّةَ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ بِهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا انْعَقَدَتْ قُرْبَةً؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِنْ الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ وَاجِبًا فَضْلًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ قُرْبَةً وَاجِبَةً مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا صَلَاةٌ لَا مِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْغَصْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْمُجَاوِرِ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِمُجَاوِرِهِ يُوجَدُ بِفِعْلِهِ مُوجَبُ الْأَمْرِ بِجُمْلَتِهِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا عَدَمُ الْغَصْبِ بَلْ أَوْجَبَهَا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَدَمُهُ فِيهَا وَالنَّاهِي عَنْ الْغَصْبِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ عَدَمَ الصَّلَاةِ بَلْ حَرَّمَهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَدَمَهَا فِيهِ فَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وُجِدَ مُقْتَضَاهُ بِجُمْلَتِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا، وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِوَصْفِهِ لَا يُوجَدُ بِفِعْلِهِ مُوجَبُ الْأَمْرِ بِجُمْلَتِهِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْوَصْفِ فَصَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ مَأْمُورٌ بِهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْ إيقَاعِهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَيَكُونُ عَدَمُ إيقَاعِهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ شَرْطًا فِيهِ لَا يُوجَدُ بِفِعْلِهِ مُوجَبُ الْأَمْرِ إلَّا بِتَحَقُّقِهِ وَالْتُزِمَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْوَصْفِ كَمَا عَلِمْت.
وَالْتَزَمَ أَحْمَدُ وَابْنُ حَبِيبٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْوَصْفِ وَالْمُجَاوِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْوَصْفِ فَاتَّضَحَ الْفَرْقُ، وَظَهَرَ انْدِفَاعُ مَا أُورِدَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ الْأَصْلُ وَالْوَصْفُ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَزِمَ الصِّحَّةُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ وَهُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ الْأَصْلُ وَالْوَصْفُ وَسُوِّيَ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ لَزِمَ الْبُطْلَانُ فِيهِمَا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَبْطُلُ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فُعِلَ وَمَتَى دَارَ بَيْنَ النَّدْبِ وَالتَّحْرِيمِ تُرِكَ تَقْدِيمًا لِلرَّاجِحِ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ يَوْمُ الشَّكِّ هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ أَمْ لَا) اعْتَبَرَ الْمُجْتَهِدُونَ كُلًّا مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فُعِلَ وَقَاعِدَةِ أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ النَّدْبِ وَالتَّحْرِيمِ تُرِكَ تَقْدِيمًا لِلرَّاجِحِ، وَهُوَ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ وَالْوُجُوبَ يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ، وَعِنَايَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَالْعُقَلَاءِ بِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَشَدُّ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَدِيثُ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» لِقَوْلِ ابْنِ عَابِدِينَ لَا أَصْلَ لِرَفْعِهِ، وَإِنَّمَا يُرْوَى مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَأَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ مَنْ صَامَ إلَخْ تَمَسَّكُوا فِي وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ احْتِيَاطًا بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَجُلٍ هَلْ صُمْت مَنْ سِرَرِ شَعْبَانَ قَالَ لَا قَالَ إذَا أَفْطَرْت فَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» وَسِرَرُ الشَّهْرِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا آخِرُهُ كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ لِاسْتِمْرَارِ الْقَمَرِ فِيهِ أَيْ إخْفَائِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ كَذَا أَفَادَهُ فِي حَاشِيَةِ الدُّرَرِ اهـ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ.
الْأَمْرُ الثَّانِي الْقَاعِدَةُ الْأُولَى لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ