فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُفْطِرَاتِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ رُخْصَةً، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي اللَّيْلِ الصَّوْمَ ثُمَّ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ اللَّيْلُ الْمُتَيَقَّنُ بَقِيَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِوُجُوبِ صَوْمِهِ، وَشَعْبَانُ الْأَصْلُ فِيهِ الْفِطْرُ عَلَى عَكْسِ لَيْلِ رَمَضَانَ فَنُفْطِرُهُ حَتَّى نَتَيَقَّنَ مُوجِبَ الصَّوْمِ فَهُوَ عَكْسُ لَيْلِ الصَّوْمِ فَظَهَرَ الْجَوَابُ وَالْفَرْقُ وَمِنْ هَذَا الْمَنْزَعِ إذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا مَعَ أَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ الرَّابِعَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْخَامِسَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ قُدِّمَ الْمُحَرَّمُ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ.
وَالْوُجُوبَ يَعْتَمِدَ الْمَصَالِحَ وَعِنَايَةُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَالْعُقَلَاءِ بِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَشَدُّ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ فِي وُضُوئِهِ هَلْ هِيَ ثَانِيَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ ثَالِثَةً مَعَ دَوَرَانِهَا بَيْنَ الثَّالِثَةِ الْمَنْدُوبَةِ وَالرَّابِعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَهَاهُنَا التَّرْكُ أَظْهَرُ مِنْ الشَّكّ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْوَاجِبِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ فِيمَا عَلِمْت بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي الْخَامِسَةِ مَشْرُوطٌ بِتَيَقُّنِ الرَّابِعَةِ أَوْ ظَنِّهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ التَّحْرِيمُ بَلْ اُسْتُصْحِبَ الْوُجُوبُ مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْأَرْبَعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــSفَظَهَرَ الْجَوَابُ وَالْفَرْقُ) . قُلْت: لَيْسَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّيْلِ الصَّوْمُ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَمْنُوعُ بِاللَّيْلِ الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ بَعْدَ النَّوْمِ خَاصَّةً، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا قَبْلُ فَلَا، ثُمَّ إنَّ جَوَابَهُ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَنَصَّ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ تَبَيُّنُ الْفَجْرِ، وَمَا رَأَى الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ فِي وُجُوبِ إمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ذَهَبُوا إلَى مُخَالَفَةِ الْآيَةِ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ، بَلْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى الْمُرَاقِبِ لِلْفَجْرِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ فَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُرَاقَبَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَا قَالَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQرَمَضَانَ فَهُوَ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ مَنْدُوبٌ وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ تَعَذُّرِهَا قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِهِ كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ أَيْ مَطْلَعِ الْهِلَالِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا كَالدُّخَانِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ إكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا نَصًّا وَلَا يَثْبُتُ بَقِيَّةُ تَوَابِعِهِ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَعَ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ، وَذَكَرَهُ فِي الْفَائِقِ وَصَاحِبُ التَّبْصِرَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ رَزِينٍ فِي شَرْحِهِ، وَالْمَذْهَبُ يَجِبُ صَوْمُهُ أَيْ صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إنْ حَالَ دُونَ مَطْلَعِهِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ وَنَحْوُهُمَا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ حُكْمًا ظَنِّيًّا بِوُجُوبِهِ احْتِيَاطًا لَا يَقِينًا.
اخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ وَأَكْثَرُ شُيُوخِ أَصْحَابِنَا وَنُصُوصُ أَحْمَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِهِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَهُ جَمْعٌ مِنْ التَّابِعِينَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا قَالَ «إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» مُتَّفَقٌ وَمَعْنَى «فَاقْدُرُوا لَهُ» أَيْ ضَيِّقُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اُقْدُرُوا زَمَانًا يَطْلُعُ فِي مِثْلِهِ الْهِلَالُ وَهَذَا الزَّمَانُ يَصِحُّ وُجُودُهُ فِيهِ أَوْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَاعْلَمُوا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ أَنَّهُ تَحْتَ الْغَيْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57] أَيْ عَلِمْنَاهَا مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ قَالُوا الشَّهْرُ أَصْلُهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا بَعَثَ مَنْ يَنْظُرُ لَهُ فَإِنْ رَآهُ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَاوِي الْخَبَرِ وَأَعْلَمُ بِمَعْنَاهُ فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ كَمَا رَجَعَ إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ يُؤَكِّدُهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَاطُ لَهُ وَيَجِبُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَيَجْزِيهِ صَوْمُ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ حِينَئِذٍ إنْ بَانَ مِنْهُ أَيْ مِنْ رَمَضَانَ بِأَنْ تَثْبُتَ رُؤْيَتُهُ بِمَكَانٍ آخَرَ لِأَنَّ صِيَامَهُ وَقَعَ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ قِيلَ لِلْقَاضِي لَا يَصِحُّ إلَّا بِنِيَّةٍ وَمَعَ الشَّكِّ فِيهَا لَا يُجْزَمُ بِهَا فَقَالَ لَا يُمْنَعُ التَّرَدُّدُ فِيهَا لِلْحَاجَةِ كَالْأَسِيرِ وَصَلَاةٍ مِنْ خَمْسٍ وَتُصَلَّى التَّرَاوِيحُ لَيْلَتئِذٍ احْتِيَاطًا لِلسُّنَّةِ.
قَالَ أَحْمَدُ الْقِيَامُ قَبْلَ الصِّيَامِ وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ تَوَابِعِهِ أَيْ الصَّوْمِ مِنْ وُجُوبِ كَفَّارَةٍ بِوَطْءٍ فِيهِ وَنَحْوِهِ كَوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ النِّيَّةَ لِتَبَعِيَّتِهَا لِلصَّوْمِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ بِأَنْ لَمْ يَرَ مَعَ الصَّحْوِ هِلَالَ شَوَّالٍ بَعْدَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي غُمَّ فِيهَا هِلَالُ رَمَضَانَ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ بِالْوَطْءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا تَثْبُتُ بَقِيَّةُ الْأَحْكَامِ مِنْ حُلُولِ الْآجَالِ وَوُقُوعِ الْمُعَلَّقَاتِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ وَغَيْرِهَا كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ خُولِفَ لِلنَّصِّ وَاحْتِيَاطًا لِعِبَادَةٍ عَامَّةٍ اهـ.
وَلِمَا صَحَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» وَحَدِيثِ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ» إلَخْ تَمَسَّكُوا بِذَلِكَ فِي مَنْعِ صَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عَابِدِينَ الْحَنَفِيُّ