وَعَدَمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ يُسْقِطُ الْوُجُوبَ وَيُبْقِي الْجَوَازَ وَالنَّدْبَ ثُمَّ مَرَاتِبُ الْإِنْكَارِ ثَلَاثَةٌ أَقْوَاهَا أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَيْنًا مَعَ الْقُدْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْتَقَلَ لِلتَّغْيِيرِ بِالْقَوْلِ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَلْيَكُنْ الْقَوْلُ بِرِفْقٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَمَرَ مُسْلِمًا بِمَعْرُوفٍ فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ كَذَلِكَ» قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقَوْلِ انْتَقَلَ لِلرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ، وَهِيَ أَضْعَفُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ» وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ، وَيُرْوَى «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي الصَّحِيحِ نَحْوُهُ
(سُؤَالٌ) قَدْ نَجِدُ أَعْظَمَ النَّاسِ إيمَانًا يَعْجِزُ عَنْ الْإِنْكَارِ، وَعَجْزُهُ لَا يُنَافِي تَعْظِيمَهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ أَوْ أَسْقَطَهُ عَنْهُ بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنْ الْإِنْكَارِ لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ أَوْ نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْقُرْبَةِ نَقْصُ الْإِيمَانِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» جَوَابُهُ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هَا هُنَا الْإِيمَانُ الْفِعْلِيُّ الْوَارِدُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةُ فِعْلٌ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْإِيمَانُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ شُعْبَةً وَقِيلَ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ» وَهَذِهِ التَّجْزِئَةُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ وَقَدْ سَمَّاهَا إيمَانًا وَأَقْوَى الْإِيمَانِ الْفِعْلِيِّ إزَالَةُ الْيَدِ لِاسْتِلْزَامِهِ إزَالَةَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى الْفَوْرِ ثُمَّ الْقَوْلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَقَعُ مَعَهُ الْإِزَالَةُ، وَقَدْ تَقَعُ، وَالْإِنْكَارُ الْقَلْبِيُّ لَا يُورِثُ إزَالَةً أَلْبَتَّةَ، أَوْ يُلَاحَظُ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْإِزَالَةِ فَيَبْقَى الْإِيمَانُ مُطْلَقًا، وَهَا هُنَا سِتُّ مَسَائِلَ يَكْمُلُ بِهَا الْفَرْقُ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
أَنَّ الْوَالِدَيْنِ يَأْمُرَانِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَيَانِ عَنْ الْمُنْكَرِ، قَالَ مَالِكٌ: وَيَخْفِضُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسُهُ عَاصِيًا بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ أَوْ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ الْحُصُولِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ وَنَهْيَهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ كَنَهْيِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا، وَثَانِيهَا: قِتَالُ الْبُغَاةِ وَهُمْ عَلَى تَأْوِيلٍ، وَثَالِثُهَا ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْفَوَاحِشِ، وَرَابِعُهَا قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــS. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَصِلُهُ ثَوَابُ الْجَمِيعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْآيَتَيْنِ وَشِبْهِهِمَا عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ. اهـ.
وَفِي الْخَازِنِ وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ} [النجم: 39] الْآيَةَ الْكَافِرُ وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ إلَّا مَا عَمِلَ هُوَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ وَيُعَافَى فِي بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ، وَقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] هُوَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فَجَائِزٌ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ اهـ وَفِي الْخَطِيبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا مَنْسُوخُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ أَيْ: وَإِنَّمَا هُوَ فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فَأَدْخَلَ الْأَبْنَاءَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إنَّ ذَلِكَ لِقَوْمِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلَهُمْ مَا سَعَوْا وَمَا سَعَى لَهُمْ غَيْرُهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا لَهَا، وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ» «وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أُمِّي قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ» اهـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: وَقَوْلُ الْقَرَافِيِّ بِأَنَّ التَّوْبَةَ وَالْعُقُوبَاتِ تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ، وَتَمْحُو آثَارَهَا إنْ أَرَادَ بِهِ مَحْوَهَا مِنْ الصَّحَائِفِ فَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْإِحْبَاطِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ: وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] عَلَى كَوْنِ الْمَصَائِبِ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ أَوْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْمَصَائِبُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ، وَأَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُقَابَلُ بِمُصِيبَةٍ يَكُونُ سَبَبًا لَهَا بَلْ يُسَامَحُ فِيهِ وَيُعْفَى عَنْهُ قَالَ: وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُصِيبَةَ لَا ثَوَابَ فِيهَا قَطْعًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ تَبَيَّنَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْعُمُومَاتِ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِتَعَيُّنِ حَمْلِهَا عَلَى الْخُصُوصِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَبِالظَّوَاهِرِ الْمُتَظَاهِرَةِ بِثُبُوتِ الْحَسَنَاتِ فِي الْآلَامِ وَشِبْهِهَا، قَالَ: فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ أَيْ: وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُسَبِّبًا إلَخْ قَالَ: وَمَا قَالَهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ التَّكْفِيرَ بِمَوْتِ الْأَوْلَادِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَنَّهُ يُؤْلِمُ فَهُوَ تَحْكِيمٌ بِتَقْيِيدِ كَلَامِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَتَضْيِيقٌ لِبَابِ الرَّحْمَةِ الثَّابِتِ سِعَتُهُ قَالَ: وَلَا مَانِعَ مِنْ الدُّعَاءِ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ أَيْ الْمَعْلُومِ الْحُصُولِ؛ إذْ ذَلِكَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: وَالدُّعَاءُ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إلَخْ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ: إنَّ ذَلِكَ قِلَّةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِالْمَغْفِرَةِ» مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا