وأيضًا: فالدنيا وإن كانت محلًّا للكرب أيضًا، لكن لا نسبة لكربها إلى كرب الآخرة حتى تذكر معها، فاقتصر هنا عليها.
نعم؛ من أعظم كرب الدنيا الإعسارُ، بل هو أعظمها؛ فلذلك أُلحق بالستر، فلم يخص جزاؤه بالآخرة، بل عمَّم في الدنيا أيضًا، وأيضًا: فالكرب الشدائد العظيمة، وليس كل أحدٍ يحصل له ذلك في الدنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة للستر؛ فإن أحدًا لا يكاد أن يخلو في الدنيا منها ولو بتعسر بعض الحاجات المهمة.
قيل: ولأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء، فادَّخر اللَّه تعالى جزاء تنفيس الكرب عنده؛ لينفس به كرب الآخرة ولو لم يكن منها إلا دنو الشمس من رؤوس الخلائق وإلجام العرق لهم، ففي "الصحيحين": "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا -أو قال: باعًا- وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس وإلى آذانهم" (?).
وروى مسلم أيضًا: "تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميلٍ أو ميلين، فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يُلْجمه إلجامًا" (?).
(ومن يسَّر على معسر) بإبراءٍ، أو هبةٍ، أو صدقةٍ، أو نَظِرَةٍ إلى ميسرةٍ بنفسه، أو وساطته، ويصح شموله لإفتاء العامي في ضائقةٍ وقع فيها بما يخلصه منها؛ لأنه معسرٌ بالنسبة للعالم.
(يسَّر اللَّه) تعالى (عليه) أموره ومطالبه (في الدنيا والآخرة) فيه عظيم فضل التيسير على معسر، والأحاديث فيه كثيرة؛ منها: خبر مسلم: "من سرَّه أن ينجيه اللَّه من كرب يوم القيامة. . فلينفس عن معسرٍ أو يضع عنه" (?).