ولما نقل القرطبي هذا. . ذكر معه عن بعض أرباب القلوب أنه لم يتأول محبة العبد للَّه تعالى، حيث فسَّرها بأنها الميل الدائم بالقلب الهائم، ثم قال: فهؤلاء قد صرحوا بأن محبة العبد للَّه تعالى ميلٌ من العبد وتوقان، وحالٌ يجدها من نفسه من نوع ما يجده من محبوباته المعتادة له، وهو صحيحٌ؛ لأن النفوس مجبولةٌ على الميل إلى الحسن والجمال والكمال، فبقدر ما ينكشف من ذلك يكون الميل والتعلق، حتى ربما يفضي إلى استيلاء ذلك المعنى عليه فلا يصبر عنه، ولا يشتغل بغيره.
ثم ذلك الحسن إما محسوسٌ كالصورة الجميلة المشتهاة لنيل لذَّةٍ جسمانيةٍ، وهذا قطعي الاستحالة في حق اللَّه تعالى، وإما معنويٌّ كمن اتصف بالعلم والكرم والخلق الحسن، فهذا تميل إليه النفوس الفاضلة، والقلوب الكاملة ميلًا عظيمًا فترتاح لذكره، وتهتز لسماع أحواله، وتتشوق لمشاهدته، وتلتذُّ لذلك لذةً روحانيةً لا جسمانية، كما نجد عند ذكر الأنبياء والعلماء والكرماء من الميل واللذة والرقة والأنس وإن لم نعرف صورهم المحسوسة، بل وإن عرفنا قبحها، ولا ينكر ذلك إلا أبله أو مكابر.
ويتضاعف ذلك الميل بوصول برٍّ وإحسان من المتَّصف بذلك الجمال المعنوي إلى أن يستغرق فيه، ويذهل عن جميع أشغاله وأحواله، وإذا كان هذا في حق من جماله وكماله مشوبٌ بالنقص، ومعرضٌ للزوال. . كان مَنْ لا يشاب ذلك منه بنقصٍ، ولا يعرض لزوال، مع إنعامه الذي لا يحصى. . أولى بذلك الميل، وأحقَّ بذلك الحب، وليس ذلك إلا له تعالى وحده، ثم من خصَّه بالكمال المطلق على سائر خلقه، وهو محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فمن تحقق بذلك. . كان اللَّه ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، فتأهب للقائهما، واتصف بما يرضيهما، وجانب ما يسخطهما، فأقبل عليهما، وأعرض عما سواهما إلا بإذنهما. انتهى ملخصًا، قال غيره: وهذا كلامٌ لا يرده منصفٌ، ولا ينكره إلا متعسف.
(وازهد فيما عند الناس يحبك) بفتح آخره نظير ما مر (الناس) أي: لأن قلوب غالبهم مجبولةٌ مطبوعةٌ على حب الدنيا، ومن نازع إنسانًا في محبوبه. . كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه. . أحبه واصطفاه، ومن ثم قال إمام الأئمة الشافعي رضي اللَّه