فالأول -وهم الأكثرون-: هم الذين وقفوا مع زهرة الدنيا بأخذها من غير وجهها، واستعمالها في غير وجهها، فصارت أكبر همهم، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكل هؤلاء لم يعرف المقصود منها، ولا أنها منزل سفرٍ يُتَزَوَّد منها إلى دار الإقامة وإن آمن به مجملًا.
والثاني: أخذها من وجهها، لكنه توسَّع في مباحاتها، وتلذَّذ بشهواتها المباحة، وهو وإن لم يعاقب عليه لكنه ينقص من درجاته في الآخرة بقدر توسُّعِهِ في الدنيا.
وصح عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: (لا يصيب أحدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند اللَّه وإن كان عليه كريمًا) (?).
وروى الترمذي: "إن اللَّه إذا أحبَّ عبدًا. . حماه الدنيا كما يَظَلُّ أحدكم يحمي سقيمه الماء" (?).
والحاكم: "إن اللَّه ليحمي عبده الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه" (?).
ومسلم: "الدنيا سجن المؤمن -أي: بالنسبة لما أمامه من النعيم الأخروي المقيم- وجنة الكافر" (?) أي: بالنسبة لما أمامه من العذاب الأليم الدائم المقيم.
والثالث: هم الذين فهموا المراد من الدنيا، وأن اللَّه سبحانه وتعالى إنما أسكن عباده فيها، وأظهر لهم لذَّاتها ونضرتها، ليبلوهم أيهم أحسن عملًا، كما نصَّ على ذلك في غير آية، قال بعض السلف: يعني مَنْ هو أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.
ولمَّا بيَّن تعالى أنه جعل ما على الأرض زينةً لها، ليبلوهم أيهم أحسن عملًا. . بيَّن انقطاع ذلك ونفاده بقوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} فمن فهم أن هذا هو مآلها. . جعل همه التزود منها لدار القرار، واكتفى من الدنيا بما يكتفي به المسافر في