وفي حديث مرسل: يا رسول اللَّه، مَنْ أزهدُ الناس؟ فقال: "من لم ينس القبر والبلى، وترك أفضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدَّ غدًا من أيامه، وعدَّ نفسه من الموتى" (?).

وقد قسَّم كثيرٌ من السلف الزهد إلى ثلاثة أقسام: زهد فرض؛ وهو اتقاء الشرك الأكبر ثم الأصغر، وهو أن يراد بشيءٍ من العمل قولًا أو فعلًا غير اللَّه تعالى، ثم اتقاء جميع المعاصي.

وعلى هذا: الزاهد في الحرام فقط قيل: يسمى زاهدًا، وعليه الزهري وابن عيينة وغيرهما، وقيل: لا يسماه إلا إن ضم لذلك الزهد بنوعيه الآخرين، وهما ترك الشبهات رأسًا، وفضول الحلال، ومن ثم قال بعضهم: لا زهد اليوم، لفقد المباح المحض.

وقد جمع أبو سليمان الداراني أنواع الزهد كلها في كلمةٍ واحدةٍ فقال: (هو ترك ما شغلك عن اللَّه عز وجل) (?).

واعلم: أن الذم الوارد في الكتاب والسنة في الدنيا ليس راجعًا لزمانها وهو الليل والنهار؛ فإن اللَّه تعالى جعلهما خِلْفةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، ولا لمكانها وهو الأرض؛ لأن اللَّه تعالى جعلها لنا مهادًا، ولا إلى ما أودعه تعالى فيها من الجمادات والحيوانات؛ لأن ذلك كله من نعمه تعالى على عباده، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وإنما هو راجعٌ إلى الاشتغال بما فيها عما خُلقنا لأجله من عبادته تعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

ثم من بني آدم مَنْ أنكر المعاد، وهؤلاء هم أهل التمتع بالدنيا، على أن منهم من كان يأمر بالزهد فيها، ويرى أن كثرتها توجب الهمَّ والغمَّ، ومن ثم قال أصحابنا: لا يكفي الخطيبَ عن الوصية بالتقوى الاقتصارُ على ذم الدنيا؛ لأن ذمها معلومٌ لكل أحدٍ حتى لمنكري المعاد، وبقيتهم يقرُّون بالمعاد، لكنهم منقسمون إلى ظالمٍ لنفسه، ومقتصدٍ، وسابقٍ بالخيرات:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015