والقنوع هو الزهد، وهو الغنى، فمن حقَّق اليقين. . وثق في أموره كلها باللَّه تعالى، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين رجاءً وخوفًا، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك. . كان زاهدًا في الدنيا حقيقةً، وكان من أغنى الناس وإن لم يكن له شيءٌ من الدنيا.
ومنشأ ثانيها: من كمال اليقين، ومن ثم روي: أن من دعائه صلى اللَّه عليه وسلم: "اللهم، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا" (?).
ومن كلام الإمام علي كرم اللَّه وجهه: (من زهد في الدنيا. . هانت عليه المصائب) (?).
ومنشأ ثالثها: من سقوط منزلة المخلوقين من القلب، وامتلائه من محبة الحق، وإيثار رضاه على رضا غيره، وألَّا يرى لنفسه قدرًا بوجهٍ، ومن ثم كان الزاهد حقيقةً هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها؛ ولهذا قيل: الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، وقيل لبعض السلف: من معه مالٌ هل هو زاهدٌ؟ فقال: نعم إن لم يفرح بزيادته، ولم يحزن بنقصه.
وقال سفيان الثوري: (الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء) (?)، ومن دعائه: (اللهم، زهِّدنا في الدنيا، ووسِّع علينا منها، ولا تَزْوِها عنا فترغبنا فيها) (?).
وقال أحمد: هو قصر الأمل، واليأس مما في أيدي الناس؛ أي: لأن قصره يوجب محبة لقاء اللَّه تعالى بالخروج من الدنيا، وهذا نهاية الزهد فيها، والإعراض عنها.