جهاد الكفار، وأن هذا هو الجهاد الأصغر، وذاك هو الجهاد الأكبر؛ إذ منعها هواها من أجلِّ ما اقتناه الإنسان، ومن أعظم آدابها الصمتُ وترك الكلام فيما لا يعني، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "من صمت. . نجا" (?).
(قلت: بلى يا رسول اللَّه، فأخذ) صلى اللَّه عليه وسلم (بلسانه) أي: أمسك لسان نفسه، وهو يُذكَّر ويؤنَّث، وقد يطلق على نفس الكلام مجازًا؛ كما في قوله تعالى: {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي: بلغتهم.
(ثم قال: كُفَّ عليك) أي: عنك، أو ضُمِّن (كف) معنى (احبس) (هذا) أي: عن الشر؛ للخبر السابق: "فليقل خيرًا، أو ليصمت" (?) وجمع بين إمساكه وقوله ذلك؛ مع أنه كان يمكنه أن يقول: كف عليك لسانك؛ لأن النفس بالحسيات آلفُ منها بالعقلبات؛ لتأخُّر زمن إدراك هذه عن زمن إدراك تلك، فكان ذكر المعنى العقلي الجلي ثم تعقيبه بالتمثيل الحسي أبلغَ وأوقعَ في النفس؛ لما فيه من زيادة القوة بنقله من الخفاء إلى الظهور على أكمل وجهٍ وأبلغه؛ وهذا هو السبب في قول إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: ليزداد قوةً يقينية بمشاهدة المعقول عيانًا؛ إذ عين اليقين أقوى من مجرد علمه.
ومن ثم كان قولك: هذا الماء والنار كيف يجتمعان أبلغ من قولك: الماء والنار كيف يجتمعان؛ لأن الإشارة إليهما أوجبت للعقل زيادة شعورٍ واستحضارٍ لهما لا يوجد عند مجرد ذكرهما من غير إشارة.
(قلت: يا نبي اللَّه (?)؛ وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟!) استفهامُ استثباتٍ وتعجبٍ واستغرابٍ، ولا ينافي خفاء هذا عليه قوله صلى اللَّه عليه وسلم في حقه: "أَعْلمُكُم بالحلال والحرام معاذ" (?) لأنه إنما صار أعلَمَهُمْ بالحلال والحرام بعد هذا