هنا: المبالغة في التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإدخالها قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها، وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب، وكان صلى اللَّه عليه وسلم لا يطيل خُطبته، بل يُبْلِغ ويوجز.
وفي خبر مسلم: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئِنَّةٌ من فقهه (?)، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة؛ فإن من البيان لسحرًا" (?).
(فقلنا: يا رسول اللَّه؛ كأنها موعظة مودع) كأن وجه فهمهم لذلك مزيد مبالغته صلى اللَّه عليه وسلم في تخويفهم وتحذيرهم على ما كانوا يألفونه منه قبل، فظنوا أن ذلك لقرب وفاته ومفارقته لهم؛ فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل.
وفيه جواز تحكيم القرائن والاعتماد عليها في بعض الأحوال؛ لأنهم إنما فهموا توديعه إياهم بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة كما تقرر.
واحتمالُ أنه أشار إلى توديعهم ففهموا ما سألوه منه نظيرَ ما وقع في حجة الوداع. . بعيدٌ، بدليل قولهم: (كأنها).
(فأوصنا) أي: وصيةً جامعةً كافيةً؛ فإنهم لما فهموا أنه مودعٌ. . استوصوه وصيةً تنفعهم ويُتَمَسَّك بها بعده، ويكون فيها كفاية لمن يتمسك بها، وسعادة له في الدارين.
ويؤخذ منه: أنه ينبغي لتلامذة العالم أن يسألوه في مزيد وعظهم وتخويفهم ونصحهم، ثم رأيت بعضهم صرَّح به فقال: فيه استحبابُ استدعاءِ الوصية والوعظ من أهلهما، واغتنام أوقات أهل الدين والخير قبل فراقهم (?).
(قال: أوصيكم بتقوى اللَّه) تعالى، جمع في ذلك كل ما يُحتاج إليه من أمور الآخرة؛ لما مر أن التقوى: امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وتكاليف الشرع لا تخرج عن ذلك، وأصلها: وِقْوَى بكسر أوله وقد يفتح، من الوقاية -أبدلت تاءً