(فلا يلومنَّ إلا نفسه) فإنها آثرت شهواتها ومستلذاتها على رضا خالقها ورازقها، فكفرت بأنعُمِ اللَّه، ولم تُذْعن لأحكامه وحكمه، فاستحقَّتْ أن يعاملها بمظهر عدله، وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، نسأل اللَّه تعالى العافية من ذلك، وأن يمنَّ علينا بالسلامة من خوض غمرة هذه المهالك، إلى أن نلقاه مُبشَّرين بقربه ورضاه، آمين.

واحتيج هنا للتأكيد بالنون؛ تحذيرًا أَن يخطر في قلب عاملٍ أن مستحق اللوم غيرُ نفسه، وليس كذلك؛ لأن اللَّه تعالى أوضح وأعذر حتى لم يُبقِ حجةً لأحدٍ، وفيه إيماء إلى ذم ابن آدم وقلة إنصافه؛ فإنه يحسب طاعته من عمله لنفسه ولا يسندها إلى التوفيق، ويتبرأ من معاصيه ويسندها إلى الأقدار؛ فإن كان لا تصرُّفَ له كما يزعم. . فهلَّا كان ذلك في الأمرين؟! كان كان له تصرُّف. . فلِمَ ينفيه عن أحدهما؟!

ووجهُ ختم هذا الحديث بهذه الجملة: التنبيهُ على أن عدم الاستقلال بنحو الإطعام والستر لا يناقض التكليف بالفعل تارةً وبالترك أخرى؛ لأنَّا وإن علمنا أنَّا لا نستقل، لكننا نحسُّ بوجدان الفرق بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش، والاختيارية كحركة السليم، وهذه التفرقة راجعةٌ إلى تمكُّن محسوس مشاهد، وأمرٍ معتاد، يوجد مع الاختيار دون الاضطرار، وهذا هو مورد التكليف المعبَّر عنه بالكسب، فلا تناقض ولا تعسُّف.

والحاصل: أن المعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر وإن كانت بقدرة اللَّه تعالى وخذلانه. . فهي بكسب العبد، فلْيَلُمْ نفسَه؛ لتفريطه بالكسب القبيح، وأن قول القدرية: هذا حجةٌ لنا؛ لأن لوم العبد نفسَه على سوء العاقبة يقتضي أنه الخالق لأفعاله، وأن قوله: "فلا يلومن إلا نفسه" تنصُّلٌ من المعصية، وأنه ليس له فيها تأثير بخلق فعل ولا تقديره. . باطلٌ بنص قوله تعالى (?): {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، والآيات في نحو هذا المعنى كثيرة، وقد قدمت منها جملةً في شرح قوله: "كلكم ضال إلا من هديته".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015