الماء يتعلَّق بها منه شيءٌ وإن لطف، وإنكار ذلك غباوةٌ ظاهرةٌ. . ليس المراد بهما حقيقتهما (?)، وإنما بها كلٌّ منهما مَثَلٌ تقريبيٌّ للإفهام (?)؛ ليعلم منه أنه لا نقص في تلك الخزائن ولافي علم اللَّه ألبتة، لا لعدم نقص ماء البحر من غرز المخيط ونقرة العصفور.
فالجامع بين إدخال المخيط في البحر والإعطاء من تلك الخزائن عدمُ النقص من حيث المشاهدةُ الصورية فيهما كان افترقا في أنَّا إذا نظرنا إليهما بعين الحقيقة. . وجدنا البحر ينقص بهذا الشيء القليل المأخوذ منه الذي لا يكاد يُدرك، وتلك الخزائن لا تنقص شيئًا مما أفاضه اللَّه تعالى منها من حين خلق السماوات والأرض إلى انقضاء هذا العالم، ثم من حين بعثه إلى ما لا نهاية له؛ لما تقرر من استحالة نقص ما لا يتناهى.
ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "يمين اللَّه -أي: إعطاؤه وإفاضته على عباده من تلك الخزائن- سحَّاءُ الليلَ والنهارَ -أي: دائمة فيهما لا يَغيضها ولا ينقصها شيء- أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، لم يَغِضْ ما في يمينه؟! " (?) أي: لم ينقص شيئًا مما في خزائن قدرته؛ لأن عطاءه تعالى بين (الكاف) و (النون): {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وحديث ابن ماجه الآتي قريبًا مصرِّحٌ بهذه العِلَّة، وليس المراد أن هناك قولًا يتوقف عليه الإيجاد، وإنما هو كنايةٌ عن وجوده في أسرع وقت عقب تعلق الإرادة به، فعبَّر عن تلك السرعة بزمن (كن) إذ لا يمكن أقل منه في العقول (?)، فقدرته تعالى صالحةٌ للإيجاد دائمًا، لا يعتريها عجزٌ ولا قصورٌ، ولا ملَلٌ ولا فتورٌ.
وحكمة ضرب المثل هنا بما ذكر: أنه غاية ما يضرب به المثل في القلة؛ إذ البحر من أعظم ما يعاين، والإبرة من أصغره، مع أنها صقيلةٌ لا يتعلَّق بها ماءٌ إلا ما لا يمكن إدراكه كما، وفي هذا تنبيهٌ أيُّ تنبيهٍ للخلق على إدامتهم لسؤاله تعالى مع