فإنه لا بد من اقتصاصه تعالى للمظلوم من ظالمه، كما استفيد من هذا السياق العجيب المومى إليه بقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} أي: فيحب تعالى منه الجهر بذكر ما ظُلِم به ليُشاع، حتى إذا عُوقب الظالم. . عرف الناس أنه لم يوقع تعالى ذلك به إلا انتصارًا للمظلوم؛ لينكفَّ غيره عن الظلم، ويعلم أن مِن وراء الظالمين طالبًا لا يُردُّ بأسه، وقد يُمهل الظالم زيادةً في استدراجه؛ ليزداد عقابه {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} فإمهاله عين عقابه، وهذا أَولى وأظهر من القول بأن حكمة إمهاله: أن المظلوم لا يستحق على الظالم إلا أن يمكنه سيده، إذ الحكم في الجناية على العبد لسيده والخلق كلهم، وأُروش جنايتهم ملكٌ وحقٌّ للَّه تعالى، فله الإمهال، وله الاقتصاص. انتهى؛ لأن هذا وإن كان حقًا إلا أن الحكمة به لم تظهر.

ولما ذكر تعالى ما أوجبه من العدل، وحرَّمه من الظلم على نفسه وعلى عباده. . أتبعه بذكر إحسانه إليهم، وغناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعةٍ لأنفسهم، ولا دفع مضرة عنهم إلا أن يكون هو الميسر لذلك، مشيرًا إلى ذلك الجلب والدفع إما في الدين، أو الدنيا، فصارت أربعة أقسام، وهي: الهداية، والمغفرة، وهما جلب منفعة، ودفع مضرة في الدين (?)، والإطعام، والكسوة، وهما جلب منفعةٍ، ودفع مضرةٍ في الدنيا.

وأهم هذه الأقسام طلب الهداية؛ فلذا افتتح به فقال: (يا عبادي؛ كلكم ضالٌّ) أي: غافلٌ عن الشرائع قبل إرسال الرسل، فهو على حدِّ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أي: غافلًا عما سيوحيه إليك، فهداك إليه بالوحي، فهو على حدِّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}، أو ضالٌّ عن الحق لو ترك وما يقتضيه طبعه من الراحة من التكاليف، وإهمال النظر المؤدي إلى معرفة اللَّه تعالى، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه (إلا من هديته) أي: وفَّقته للإيمان بما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015